من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة. والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد: تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي. {وإِنَّ لك} في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة {لأجراً} عظيماً لا يُقادَر قدره {غيرَ ممنونٍ} ؛ غير مقطوع، أو: غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة.
{
وإنك لعلى خُلُقِ عظيم} لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر. وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... }[المؤمنون: ١] الآية. وقيل: المراد: التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال ابن جُزي: وتفصيل ذلك: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك: شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال:" بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق "، قال الجنيد: سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل. هـ. والخُلق: السجية والطبع. قال في القاموس: الخُلْق بالضم وبضمتين: السجية، والطبع، والمروءة والدين. هـ.
وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال: مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله: " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن