إلى الجبروت، ومن عالَم الجبروت إلى الرحموت. تعرج الملائكة والروح إليه، أمّا الملائكة فتنتهي إلى الدهش والهيمان، وأما الروح الصافية فتنتهي إلى شهود الذات بالصحو والتمكين، وهذا مقام خاصة الخاصة من النبيين والصدِّيقين، تنتهي إلى هذا المقام في زمن يسير، إن سبقت العناية واتصل صاحبها بالخبير، وفي زمن طويل إن لم يتصل بالخبير، ولذلك قال تعالى:{في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} أي: يقطع ذلك في يوم كان مقداره لو صار بنفسه خمسن ألف سنة.
واعلم أنَّ الحق تعالى لا يتصف بقُرب ولا بُعد، هو أقرب إلى كل شيء من كل شيء، وإنما بعّد النفوسَ جهلُها به تعالى ووهْمُها وغفلتها، فإذا ارتفع الجهل والوهم، وَجَدت الحقّ كان قريباً وهي لا تشعر. قال الورتجبي: ليس للحق مكان ومنتهى، حتى أن الخلق يعرجون إليه، بل إنَّ ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيانٌ، فإذا رَفَعْتَ القربَ والبُعدَ من حيث المسافة، وأدرجت الأوهام والأفهام؛ لم يكن بين الحق والروح فصل، وصول الحق لأهل الحق بأقل طرفة، فإنَّ الوصل منه، وهو قريب غير بعيد. هـ. فاصبر أيها السائر صبراً جميلاً؛ لتظفر بالوصل الدائم، إنهم ـ أي أهل الغفلة ـ يرونه بعيداً، ونراه قريباً لمن قربتُه عليه، يوم تكون السماء كالمُهل، أي: وقت الوصول هو حين تتلطّف العوالم وتذوب الكائنات، فيتصل بحر الأزل بما لم يزل، فلم يبقَ إلاَّ الأزل، قال بعض المحققين: حقيقة المشاهدة: تكثيف اللطيف، وحقيقة المعاينة: تلطيف الكثيف، فافهم. وَلاَ يَسْأَلُ حميمٌ حَمِيماً، أي: لا مودة بين أهل البُعد وأهل القرب، ولو كان مِن أقرب الناس إليه نسباً، وهذا مثل قوله:{لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ ألآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ... }[المجادلة: ٢٢] الآية. يَوَدُّ المجرمُ، حين يرى ما خص اللهُ به أولياءه من العز والقُرب، لو يفتدي بجميع مَا يملك، بل بجميع أهل الأرض مما نزل به من عذابِ القطيعة والبُعد، كلاّ إنها، أي: نار القطيعة، لَظَى، نزاعةَ لرِفْعَةِ الرؤوس، بل تحطها عن مراتب المقربين، تدعوا مَن أدبر عن المجاهدة والتربية، وجَمَعَ الدنيا فأوعاها.