يقول الحق جلّ جلاله:{كلاَّ} أي: انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور، {بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة} أي: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبلتم عليه، تَعْجلون في كل شيء، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها، {وتذرون الآخرة} مع بقائها ودوام نعيمها. قال بعضهم: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والعكس، الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من طين يفنى. ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة.
{وجوه يومئذٍ ناضرةٌ} أي: وجوه كثيرة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين، يوم إذ تقوم القيامة، بهية متهللة، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم، {إِلى ربها ناظرةٌ} أي: مستغرِقة في مشاهدة جماله، فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا، ومعرفته.
ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصَّصة لقوله:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام: ١٠٣] أي: لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده، حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث:" فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها "، المراد بالصورة: الصفة، والمعنى: أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال.
والمقصود من الآية: تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة، أي: كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة، التي ليس فوقها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور؟ انظر الطيبي. وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها، أو لثوابها، لا يصح خلافاً للمعتزلة؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه، وأيضاً: المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى بـ " إلى "، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.
{ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ} أيك كالحة، شديدة العبوسة، وهي وجوه الكفار. {تظن} أي: يتوقع أربابُها {أن يُفعل بها فاقِرة} أي: داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر. {كلاَّ} ، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة، أي: ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين، وذلك {إِذا بلغتِ} الروح {التراقيَ} ، ولم يتقدّم للروح ذكر؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها، والتراقي: العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال، جمع: ترقوة، أي: إذا بلغت