والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
يقول الحق جلّ جلاله:{فلا اقتحم العقبةَ} ، الاقتحام: الدخول بشدة ومشقة، والعقبة: كل ما يشق على النفس من الأعمال الصالحات، و " لا " هنا إمّا تحضيضية، أي: هلاَّ اقتح العقبة، وإمّا نافية، أي: فلم يشكر تلك الأيادي والنِعم، من البصر وما بعده، بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وما سيذكره، فإن قلت:" لا " النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب تكرارها؟ فأجاب الزمخشري: بأنها مكررة في المعنى، أي: فلا اقتحم ولا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً..الخ.
ثم عظَّم تلك العقبة بقوله:{وما أدراك ما العقبةُ} أي: أي شيءٍ أعلمك ما هي العقبة التي أُمر الإنسان باقتحامها، أو نفي عنه اقتحامها؟ ثم فسّرها بقوله:{فَكُ رقبةٍ} أي: هي إعتاق رقبة، أو إعانة في أداء كتابتها. قال ابن جُزي: وفك الأسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ لأنه واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين، ولكنه لا يجزي في الكفارات. هـ.
{أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ} أي: مجاعة {يتيماً ذا مقربةٍ} أي: قرابة، {أو مِسكيناً ذَا متربةٍ} ؛ ذا فقر، يقال: ترِب فلان: إذا افتقر والتصق بالتراب، ومَن قرأ " فكَ " و " أطعمَ " بصيغة الماضي فبدل من " اقتحم "، {ثم كان من الذين آمنوا} اي: دام على إيمانه، أو: ثُم كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك، وإنما جاء بـ " ثم " لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره، إذ لا يقبل عمل صالح إلاّ به، {وتَوَاصَوا بالصبرِ} عن المعاصي وعلى الطاعات، أو: المحن التي يُبتلى بهما المؤمن، {وتَوَاصَوا بالمرحمةِ} ؛ بالتراحم