صافية من الشوائب على الإطلاق، وهذه فانية مشوبة بالمضار، وما أوتي صلى الله عليه وسلم من شرف النبوة، وإن كان مما لا يُعادله شرف، ولا يُدانيه فضل، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس.
ووجه اتصال الآية بما قبلها: أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى، وشهادة أمته على الأمم، ورفع درجات المؤمنين، وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة.
وقوله تعالى:{ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فَتَرْضى} وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا، من كما اليقين، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلاَّ الله عزّ وجل، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها، حيث قال:" أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك ". وفي الحديث: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم: هذه أرجى آيةٍ في القرآن. ودخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة، وعليها ثياب من صوف وشعر، وهي تطحن وتُرضع ولدها، فدمعت عيناه، وقال:" يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " ثم تلا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} . واللام للقسم، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل.
الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول، عند انتشار شمس روحه على بشريته، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك، {وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} يعني: أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة. هـ. ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين، الدعاة إلى الله. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله:{أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً} من أبويك {فآوى} أي: ضمَّك إلى جدك، ثم إلى عمك أبي طالب. رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين، قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب، فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه، وقال القشيري: ويُقال: بل آواه إلى ظل كَنَفِه، وربَّاه بلطف رعايته. هـ.
والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم: ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى. وقيل: هو من قول العرب: دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل، أي: ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك، لا نظير لك فآواك إلى حضرته.
{وَوَجَدَك ضالا} ؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول، {فَهَدَى} ؛ فهداك إليها، كقوله:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ}[الشورى: ٥٢] . وقال القشيري: أي: ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها. هـ. أو: ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة، ولم يقل أحد من المفسرين: ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض: وقيل: ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء: يا معشر الناس، لا تضجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه. وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالإغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته، وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى:{فَهَدَى} أي: فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم. {ووجدك عائلاً} ؛ فقيراً من حس الدنيا، {فأَغْنَى} ؛ فأغناك به عما سواه، وزوّجك خديجة، فقامت بمؤونة العيش، أو بما أفاء عليك من الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم:
" جعل رزقي تحت ظل رمحي ". {فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ} ، قال المفسرون: أي: لا تغلبه على ماله وحقه، لأجل ضعفه، وأذكر يتمك، ولا تقهره بالمنع من مصالحه، ووجوه القهر كثيرة، والنهي يعم جميعها، أي: دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم. وقد ورد في الوصية باليتيم