إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.
ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله:{اقرأْ} أي: افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله:{وربُّك الأكرمُ} فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله:" ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له:{وربك} الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو {الأكرم} أي: مِن كل كريم، يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. {الذي عَلَّم} الكتابة {بالقلم عَلَّم الإِنسانَ مَا لَمْ يعلم} فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلاَّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي:
لله في خلقه مِن صنعه عجبُ
كادت حقائقُ في الوجود تنقلب
كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها
خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا
الإشارة: اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك، الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها، وأظهر المظهر الأكبر ـ وهو الإنسان ـ من علقة مهينة، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة، ولذلكم قال:(اقرأ وربك الأكرم) الذي تكرَّم عليك وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان مَا لَمْ يكن يعلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله:{كلاَّ} ، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك {إِنَّ الإِنسان ليطغى} ؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله:{أن رآه استغنى} مفعول له،