للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للتأكيد، و (ثم) دلالة على أنَّ الثاني أبلغ من الأول، والأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.

{كَلاَّ لو تعلمون عِلمَ اليقين} أي: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم من الطاعات ما لا يوصف، ولا يكتنه كنهة، فحذف الجواب للتهويل. قال الفخر: الآية تهديد عظيم للعلماء، فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أنَّ مَن لا يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له، فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً، ثم الويل له. هـ. {لَتَرَوُنَّ الجحيمَ} : جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد وشدّد به التهديد، {ثم لَتَرَوُنَّها} : تكرير للتأكيد، أو: الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها، أو الأولى بالقلب، والثانية بالعين، ولذلك قال: {عَينَ اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وحاصلته، فإنَّ علم المشاهدة أقْصَى مراتب اليقين. {ثم لتُسألُن يومئذٍ عن النعيم} أي: عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، فإنَّ الخطاب مخصوص بمَن عكفت همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلاَّ ليأكل الطَيّب، ويلبس الطَيّب، وقطع أوقاته في اللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه على مشاق الطاعة، فأمّا مَن تمتّع بنعمة الله تعالى، وتقوّى بها على طاعته، قائماً بالشكر، فهو من ذلك بمعزلٍ بعيد. وفي الحديث: " يقول الله تبارك وتعالى: ثلاث من النعم لا اسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سواه: بيت يكنُّه، وما يُقيم به صلبه من الطعام، وما يُواري به عورَته من اللباس " فالخلائق مسؤولون يوم القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا. والله تعالى أعلم بحالهم، فالكافر يُسأل تبكيتاً وتوبيخاً على شِركه بمَن أنعم عليه، والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه. هـ.

قلت: فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة، بأن شَهِدَها من المنعِم بها، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها، وشكر عند تمامها، فلا يتوجه إليه سؤال، أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم: " هذا من النعيم الذي تُسألون عنه " في حديث أبي الهيثم. والله تعالى أعلم.

الإشارة: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، أو بالعلوم الرسمية، عن التوجُّه إلى الله، لتحصيل معرفة العيان، حتى متُّم غافلين، كلاَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم، حين يرتفع أهل العيان مع المقربين، وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين، كلاَّ لو تعلمون علم اليقين؛ لتوجهتم إليه بكل حال، لَترون الجحيم، أي: نار القطيعة، ثم لَترونها عين اليقين، ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم، هل قمتم بشكره أو لا، وشكره: شهود المنعِم في النعمة، فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين كبيرين، فقلت لهما: ما حقيقة الشكر؟ فقال أحدهما: ألاَّ يُعصى بنعمه، فقلت: هذا شكر العوام، فما شكر الخواص؟ فسكتا، فقلت لهما: شكر الخواص: الاستغراق في شهود المنعِم. هـ. وهو كذلك؛ لأنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض الأبرار، كالعُبَّاد والزُهَّاد، بخلاف الاستغراق في الشهود، فإنه خاص بأهل العرفان، أهل الرسوخ والتمكين، وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

<<  <  ج: ص:  >  >>