للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مجيب، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وهو جبريل، لأنه رئيس الملائكة، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجمع إذ لا يخلو من أصحاب، وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ رُوِيَ: أنه كان قائماً يصلّي في محرابه، فدخل عليه شاب، عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وقال له: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، سمي به لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته، فلم يهم بمعصية قط، أو لأنه استشهد، والشهداء أحياء.

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو عيسى، لأنه كان بكلمة: كُنْ، من غير سبب عادى، وَسَيِّداً أي: يسود قومه ويفوقهم، وَحَصُوراً، أي: مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي. رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت. أو عِنِّيناً، رُوِيَ: «أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة» رواه ابن عباس. وقال في الأساس: (رجل حصور: لا يرغب في النساء) . قيل: كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي الورتجبي: الحصور: الذي يملك ولا يملك. وقال القشيري: حَصُوراً: أي: مُعْتَقاً من الشهوات، مَكْفِيّاً أحكام البشرية، مع كونه مِن جملة البشر، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ الذين صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة.

ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال: يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: من أين يكون لي غلام؟! قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهامًا عن كيفية حدوثه. هل مع كبر السن والعقم، أو مع زوالهما. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، وكان له تسع وتسعون سنة، وقيل: مائة وعشرون، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد، ولم يقل: عاقرة، لأنه وصف خاص بالنساء. قال له جبريل: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من العجائب والخوارق، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني، أو الأمر كذلك، أي: كما أخبرتك، ثم استأنف: اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.

ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ، فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أعرف بها حمل المرأة، لاستقبله بالبشاشة والشكر، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي: لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر، ليخلص المدة للذكر والشكر، إِلَّا رَمْزاً بيد أو رأس أو حاجب أو عين. وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام. وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ أي: من الزوال إلى الغروب، أو من العصر إلى جزء الليل، وَالْإِبْكارِ من الفجر إلى الضحى، وقيل: كانت صلاتهم ركعتين في الفجر وركعتين في المغرب، ويؤيد هذا قولُه تعالى في الآية الأخرى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. والله تعالى أعلم.

الإشارة: الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية، منها ما تكون عقيمة مع كمالها، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام: طلب الولد إذا خاف الولي اندراس

<<  <  ج: ص:  >  >>