للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم كل شيء، ويحفظه، ويرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل ملك عيسى شيئاً من ذلك؟ فقالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا.

قال: فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يُغَذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: كيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا ... فأنزل فيهم السورة إلى هنا.

فقال الحقّ لنبيه- عليه الصلاة السلام-: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى من النصارى، مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بعبوديته، فَقُلْ لهم: تَعالَوْا نَتَلاَعَنُ، أي: نلعن الكاذبَ منا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي: يدعو كل واحد منا نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة، وإنما قدَّمهم على النفس لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم، فكان تقديمهم أبلغ في الابتهال، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، أي نجهد في الدعاء على الكاذب، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.

فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا، فقالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-: ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من أمر صاحبكم، والله ما لا عن قومٌ قط نبيّاً فعاش كبيرُهم، ولا نبت صغيرُهم، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن، فوادِعُوا الرَّجُلَ. وانصرفوا، فأتوه وهو محتضنٌ الحسن آخذ بيد الحسين، وفاطمةُ تمشي خلفه، وعَلِيّ خلفها، وهو يقول لهم: «إِذَا دَعَوْتُ فَأمِّنُوا» ، فقال الأسقُف: يا معشر النصارى، إني لأرى وجُوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعاً إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم، نرى ألا نلا عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسْلِمُوا يَكُنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأَبَوا، فقال: إنى أنابذكم، فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تَرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفَيْ حلة ألفاً في صَفَر، ألفا في رجب، وثلاثين درعاً من حديد.

فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبيّ: «والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمُسِخُوا قِرَدَة، وخَنَازِيرَ، ولأضْرَمَ عَلَيْهِمْ الوَادِي نَاراً، ولا ستأصل اللهُ نَجْرَان وأهْلَهُ، ولَمَا حَالَ الحَوْلُ على النَّصَارى كلّهم حَتى هَلكوا» .

قال الله تعالى: إِنَّ هذا الذي أوحينا إليك لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، خلافاً لما يزعم النصارى من التثليث، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، فلا أحد يساويه في قدرته التامة، ولا في حكمته البالغة، فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عن الإيمان، فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ، الذين يعبدون غير الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>