جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن أحب أموالي إِليَّ بَيْرُحاء- وهو بستان كان خلف المسجد النبوي- وهو صدقة لله، أرجو برّها وذخرها، فقال له- عليه الصلاة والسلام- «بَخٍ بَخٍ ذَلَكَ مَالٌ رَابحٌ- أو رائح- وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ» . فقسمها أبو طلحة في أقاربة.
وجاء زيدٌ بنُ حَارِثَةَ بفرسٍ كان يُحبها، فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ولده، فقال زيد: إنما أردت أن أتصدق بها، فقال- عليه الصلاة السلام-: «إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ قَبِلَهَا» . فدلّ ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل. وأعتقت امرأةٌ جارية لا تملك غيرها، كانت تحبها، واشترطت عليها أن تقيم معها، فلما عُتِقَتْ، ذهبت، فقال لها عليه الصلاة والسلام:«دعيها فقد حجَبْتِك عن النار» .
وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبي العراق، فلما جيء بها، ورآها عمرُ أعجبْته غايةً، فقال: إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فأعتقها. وذكر ابن عمر هذه الآية، فلم يجد عنده أحبَّ من جارية كانت عنده، يطؤها فأعتقها، وقال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها. وكان الربيع يعطي للسائل إذا وقف في بابه السكر، فإذا قيل له في ذلك، قال: إن الربيع يحب السكر.
ثم إن الله- تعالى- يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره، ولذلك قال: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه.
الإشارة: ليس للفقير شيء أحبّ إليه من نفسه التي بين جنبيه، بل عند جميع الناس، فمن بذل روحه في مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته، وهو غاية البر، فمن أذل نفسه لله أعزه الله، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله، ومن تواضع لله رفعه، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر، وأنفق غاية ما يُحب، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى، إذ ليس أعز منها، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
مالى سِوَى رُوحِي، وباذل نَفْسه «١» ... في حُبّ من يَهْوَاهُ ليس بُمُسْرِفِ
فَلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسْعَفْتَني ... يا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كُلَّكَ لمن أحببته، حتى لا يبقى لك منك شيء. هـ.
وقال الجنيد رضي الله عنه: لن تنالوا محبة الله حتى تسخُوا بأنفسكم لله. هـ.