ثم دعا أهل الكتاب إلى الإيمان، وهوَّن أمرهم، فقال:
وَلَوْ آمَنَ ...
قلت: الاستثناء في قوله (إلا بحبل) : من أعم الأحوال، أي: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال، إلا متلبسين بذمة من الله وذمة من الناس.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيمانا كائنا كإيمانكم، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه. وليس أهل الكتاب سواء، بل مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ المتمردون في الكفر والفسوق، فلا يهولكم أمرهم، فإنهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا ضرراً يسيراً كأذى باللسان من عيب وسب وتحريش بينكم، ولا قدرة لهم على القتال، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ ينهزموا، ويُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أبداً عليكم.
وهذه الآية من المُغيبات التي وافقها الواقع، إذ كان كذلك في بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر، فلم تُرْفع لهم راية أبداً، بل ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والخزي والهوان، أي: أحاطت بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، أو لزمتهم لزوم الدرهم المضروب لضربه، فلا تنفك عنهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا ووُجدوا، فلا يأمنون إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي: بسبب عهد من الله، وهو عقد الذمة التي أمر الله بها، إذا أدوا الجزية للمسلمين، فلهم حرمة بسبب هذا العقد، فلا يجوز التعرض لهم في مال ولا دم ولا أهل، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، وهو عقد الذمة التي يعقدها مع الكفار إذا كانوا تحت ذمتهم. والحاصل أن الذلة لازمة لهم «١» فلا يأمنون إلا تحت الذمة، إما من المسلمين وإما من الكفار. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي: انقلبوا به مستحقين له، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي: أحاطت بهم، فاليهود في الغالب فقراء مساكين، لأن قلوبهم خاوية من اليقين، فالفقر والجزع لازم لهم، ولو ملكوا الدنيا بأجمعها.
(١) أقام اليهود لهم دولة بمعونة الظلمة، وحمايتهم لهم، كما فعل البريطانيون والأمريكان. لكن المسكنة لازمة لليهود ويبعث الله عليهم مَن يسومُهم سُوءَ العذابِ، حتى مع وجودهم محصنين داخل دولتهم.