ونجاتها، فقد طارت قلوبهم من الخوف، فلا يتصور في حقهم النوم، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي: غير الظن الحق، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر- عليه الصلاة والسلام، وأن أمره مضمحل، أو ظنوا أنه قتل، ظنّاً كظن الجاهلية، أهل الشرك، يَقُولُونَ أي: بعضهم لبعض: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي: عُزلنا عن تدبر أنفسنا، فلم يبق لنا من الأمر من شيء. قاله ابنُ أُبي، لَما بلغة قتل الخزرج.
قُلْ لهم يا محمد: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار، حال كون المنافقين يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي: لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا مع محمد حتى نقتل هاهنا ويقتل رؤساؤنا. قُلْ لهم يا محمد:
أخرجتكم القدرة فى سلسلة المقادير، رغماً على أنفكم، فلو كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ آمنين لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، ووصل أجلهم إِلى مَضاجِعِهِمْ ومصارعهم، رغماً على أنفهم، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله، لا معقب لحكمه، وإنما فعل ذلك، وأخرجكم إلى المعركة لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي: يختبر ما فيها من الخير أو الشر، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي: يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بخفاياها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين. قاله البيضاوي.
الإشارة: ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون، أو من تعلق بكم من السائرين، من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان، وسكنتم في جوار الكريم المنان.
قال بعض العارفين:(إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح)«١» ، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين، أو من تعلق بهم من المريدين، وطائفة من غيرهم وهم المتفقرة الجاهلون، الذين لا شيخ لهم، قد أهمتهم أنفسهم، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه، فيقوى رجاؤهم في الفتح، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الفتح من شيء؟.
قل لهم:(أنَّ الأمر كله لله) يوصل من يشاء ويبعد من يشاء، يخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك، فإذا طال عليهم الفتح، وغلب عليهم الفقر، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا بالذل والفقر والجوع، قل لهم: ذلك الذي سبق في علم الله، لا محيد لأحد عنه، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، [كن صادقاً تجد مرشداً] ، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
(١) سبق بيان معنى العبارة عند إشارة الآية/ ٢١٢ من سورة البقرة.