والمعنى: أن الله سمع مقالتهم الشنيعة، وأنه سيعاقبهم عليها، ولذلك قال: سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي: سنسطرها عليهم في صحائف أعمالهم، أو سنحفظها في علمنا ولا نهملها، لأنها كلمة عظيمة، فيها الكفر بالله والاستهزاء بكتاب الله وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء، حيث عطفه عليه، وفيه تنبيه على أن قولهم الشنيع ليس هو أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه.
ثم ذكر عقابهم، فقال: وَنَقُولُ لهم يوم القيامة: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: المُحْرِق، والذوق: يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات، والمعنويات كما هنا، وذكره هنا لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه، لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله للخوف من فقده.
ذلِكَ العذاب بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من قتل الأنبياء، وقولكم هذا، وسائر معاصيكم، وعبّر بالأيدي لأن غالب الأعمال بهن، وبأن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ بل يجازي كلَّ عبد بما كسب من خير أو شر، فأنتم ظلمتم أنفسكم.
ثم إن قوماً منهم، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيَيْ بن أخطب وفنْحَاص ووهب بن يهوذا، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة، ألاَّ نؤمن لرسول يزعم أنه نبيّ حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله فيهم تكذيباً لهم: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في التوراة وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ كصدقة أو نسيكة، تَأْكُلُهُ النَّارُ كما كانت لأنبياء بني إسرائيل.
وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراماً على بني إسرائيل، وكانوا إذا قرَّبوا قُرباناً، أو غنموا غنيمة، فتقبل منهم، ولم يُغل من الغنيمة، نزلت نار بيضاء من السماء، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون ذلك علامة على القبول، وإذا لم يتقبل بقي على حاله، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم، لأن أكل القربان لم يُوجبْ الإيمانَ إلا لكونه معجزة، وسائر المعجزات في ذلك سواء، فلذلك ردَّ عليهم بقوله: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي:
المعجزات الواضحات، وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من أكل النار القربان، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما زالت خواص العامة مولعةً بالإنكار على خواص الخاصة، يسترقون السمع منهم، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمُهم، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم، حفظوها، وحرفوها، وأذاعوها، يريدون بذلك إطفاء نورهم،