وقد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل: ملك ومالك نكرة لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف ينعت به (الرحمن الرحيم) وهما معرفتان؟ قلت: إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله معلما لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه: يا عبادي قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم: الحمد لله، أي: احمدونى بذلك الحمد المعهود في الأزل.
وإنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ، وكأن سائلاً سأله: لم اختصصت بالحمد؟ فقال: لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها- على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها- في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي.
قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه- إذا قُوبلتْ به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما- يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددهم إلا الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه:(قوائم العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين) .
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش،