للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (شهداء) : خبر ثان لكان، أو حال، (فالله أولى) : علة للجواب أي: إن يكن المشهود عليه غنيًا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيمًا له، وإن يكن فقيرًا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإن الله أولى بالغني والفقير منكم، والضمير في (بهما) راجع إلى مادل عليه المذكور، وهو جنسًا الغني والفقير، لا إليه وإلا لوحّد لأن «أو» لأحد الشيئين. و (أن تعدلوا) : مفعول من أجله، ومن قرأ: تلوا- بضم اللام- فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف أحد الواوين، وقيل: من الولاية.

يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي: مجتهدين في إقامة العدل مواظبين على الحكم به، وكونوا شُهَداءَ لِلَّهِ بالحق تقيمون شهادتكم لوجه الله، وابتغاء مرضاته، بلا طمع أجر ولا عوض، وهذا إن تعينت عليه، ولم يكن في تحملها مشقة، وإلا أُبيح له أجر تعبه، فأدوا شهاداتكم وَلَوْ كانت عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن تقروا بالحق الذي عليها، لأن الشهادة بيان الحق، سواء كان عليها أو على غيرها، أَوِ كانت الشهادة على الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما، وأحرى غيرهما من الأجانب، إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما، تعظيمًا للغني أو شفقة للفقير، فأن فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما وبالنظر لهما، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحًا لهما ما شرعها، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى فتميلوا مع الغني أو الفقير، فقد نهيتكم إرادة أَنْ تَعْدِلُوا في أحكامكم، فتكونوا عدولاً، أو كراهية أن تعدلوا عن الحق أي: تميلوا، وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها فتكتموها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، فيجازي الكاتم والمؤدي.

قال صلّى الله عليه وسلم عند نزولها: «مَن كانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليُقِم شهادتَه على من كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَجحَد حَقًا هو عليه، وليؤُده عَفوّا، ولا يلجئه إلى السُلطان وخصوُمتِه، ليقتطع بها حقه، وأيما رجل خَاصَمَ إليَّ فقضَيتُ له على أخِيِه بحقٍ ليس له عليه، فلا يأخُذُه، فإنَما أقَطَعُ له قطعةً مِنَ النَارِ» .

الإشارة: قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل في الأمور كلها، ونهى عن مراقبة الخلق في الأشياء كلها، فيتأكد على المريد ألاَّ يراقب أحدًا من الخلق وإنما يراقب الملك الحق، فيكون قويًا في الحق، يقيمه على نفسه وغيره، فلا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق، من راقب الحق غاب عن الناس، ومن راقب الناس غاب عن الحق، وعاش مغمومًا من الخلق، ولله در القائل حيث قال:

مّن رَاقّبَ الناسَ مات غما ... وفاز باللذات الجَسُور

<<  <  ج: ص:  >  >>