قلت: من قرأ (زبورًا) بالفتح، فالمراد به كتاب الزبور، ومن قرأ بالضم، فجمع «زِبر» بكسر الزاي وسكون الباء، بمعنى مزبورًا، أي: مكتوبًا، أي: آتينا داود كتبًا متعددة، و (رسلاً) : منصوب بمحذوف دل عليه «أوحينا» ، أي: أرسلنا رسلاً، أو يفسره ما بعده، أي: قصصنا عليك رسلاً، و (رسلاً مبشرين) : منصوب على البدل، أو على المدح، أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال الموطئة لما بعده، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا، فأمرك كأمرهم. وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم، وأول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول رسول عُذبت أمته بدعوته، وأطول الأنبياء عُمرًا، وجُعلت معجزته في نفسه، فإنه عمَّر ألف سنة، ولم تنقص له سن، ولم تنقص له قوه، ولم تشب له شعرة، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه.
ثم قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ أي: الأحفاد، وهم أنبياء بني إسرائيل، وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم، وآخرهم عيسى عليه السلام، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي: كتاب الزبور، أو زُبورًا أي: صحفًا متعددة، وأرسلنا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذه السورة، أو قبل هذا اليوم، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وفي الحديث:
«عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر» ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً حقيقيًا، خُصَّ به من بين الأنبياء، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام.
قال الورتجبي: بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا، وتحمل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب. قال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
. هـ. وقال ابن عطية: كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد، وكما أنَّ الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام. هـ.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال: أرسلنا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ بعث الرُّسُلِ فيقولون: لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك،