والمشهور في الأخبار، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل، نعم، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له: بولس، حسدًا منه، وذلك أنه دخل في دينهم، وفرق أموالهم، وتأهب للتعبد معهم، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى- عليهما السلام- في زعمهم، وكان معه رجلان اسمهما: يعقوب وناسور، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما: عيسى هو الله أو ابن الله، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه، فشاع مذهب الرجلين، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية.
ثم هددهم على الشرك فقال، أي: عيسى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي: يمنع من دخولها لأنها دار الموحدين، وَمَأْواهُ النَّارُ أي: محله النار، لأنها معدة للمشركين، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام، أو من كلام الله تعالى.
ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي: أحد ثلاثة، عيسى وأمه وهو ثالثهم، أو أحد الأقانيم الثلاثة، الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر، وهذه المقالة- أعني التثليث، هي قوله النسطورية والملكانية، وما سبق في قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ قول اليعقوبية، القائلة بالاتحاد، وكلهم ضالون مضلون، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في ألوهيته، متصلاً ولا منفصلاً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ، ولم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا، عذاب موجع.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي: أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول، فإن تابوا غفر الله لهم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وهذا الاستفهام:
تعجب من إصرارهم، مع كون التوبة مقبولة منهم.
ثم رد عليهم بقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ بشر قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وخصه الله بآيات، كما خصهم بها، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه، فقد أحيا العصى، وجعلها حية تسعى على يد موسى، بل هو أعجب، وإن كان قد خلقه الله من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فقط، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران إليه افتقار