للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (يا عيسى ابن مريم) : ابن هنا بدل، ولذلك كتب بالألف، و (أن ينزل) : مفعول (يستطيع) ، ومن قرأ بالخطاب، فمفعول بالمصدر المقدر، أي: سؤال ربك إنزال مائدة، و (لأولنا وآخرنا) : بدل كل، من ضمير (لنا) ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد، و (ذلك) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، وأعيدت اللام مع البدل للفصل، وضمير (لا أعذبه) :، نائب عن المصدر، أي: لا أعذب ذلك التعذيب أحدًا.

يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أي: هل يطيعك ربك في هذا الأمر، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف في القدرة، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ مع جزمهم بأن عبد الله كان قادرًا على تعليمهم الوضوء. فالحواريون جازمون بأن الله- تعالى- قادر على إنزال المائدة، لكنهم شكوا في إسعافه على ذلك.

قال ابن عباس: كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكوا أن الله تعالى يقدر على ذلك، وإنما معناه، هل يستطيع لك أي: هل يطيعك، ومثله عن عائشة، وقد أثنى الله- تعالى- على الحواريين، في مواضع من كتابه، فدل أنهم مؤمنون كاملون في الإيمان.

قال لهم عيسى عليه السلام: اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته وصحة نبوتي، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة، قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال، أي: نعاين الآية ضرورة ومُشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي في الاستدلال، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا علمًا ضروريًا لا يختلجه وهم ولا شك، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي: نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس، أو من الشاهدين للعين، دون السامعين للخبر، وليس الخبر كالعيان، والحاصل: أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين، دون الأكتفاء بعلم اليقين.

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مسعفًا لهم لما رأى لهم غرضًا صحيحًا في ذلك، رُوِي أنه لبس جبّة شعر، ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي، وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي: لمتقدمنا ومتأخرنا، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور، فنتخذه عيدًا نحن ومن يأتى بعدنا، وَيكون نزولها آيَةً مِنْكَ على كمال قدرتك وصحة نبوتي، وَارْزُقْنا المائدة والشكر عليها، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز. قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ كما طلبتم، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لآ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي: من عالمي زمانهم، أو مطلقًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>