للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن قرأ: «يُكذّبُونَك» بالتشديد فمعناه: لا يعتقدون كذبك، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: لا يجدونك كاذبًا، يقال: أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبًا، وقيل: معناهما واحد، يقال: كذّب فلانٌ فلانًا، وأكذبه، بمعنى واحد، وفاعل (جاءك) : مضمر، أي: نبأ أو بيان، وقيل: الجار والمجرور. وجواب (فإن استطعت) : محذوف، أي: فافعل.

يقول الحق جلّ جلاله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي: الكفار في جانبك من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة، لجزمهم بصحة نبوتك، ولكنهم يجحدون بآيات الله، حسدًا وخوفًا على زوال الشرف من يدهم. نزلت في أبي جهل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنَّا لاَ نُكَذِّبُكَ، ولكِن نُكذِّبُ بِمَا جئتَ بِهِ «١» . وقال الأخنَسُ بن شُرَيق: والله إن محمدًا لصادق، ولكنى أحسده على الشرف. ووضع (الظالمين) موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم.

ثم سلاَّه عن ذلك، فقال: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا أي: صبروا على تكذيبهم وأذاهم، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين، ولذلك قيل: الصبر عنوان الظفر. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ السابقة بنصر الصابرين، كقوله تعالى:

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «٢» : الآية. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: من قصصهم، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم الله، فتأنس بهم وانتظر نصرنا.

وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي: عَظُمَ وشق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عنك وعن الإيمان بما جئت به، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً أي: سربا فِي الْأَرْضِ فتدخل فيه لتطلع لهم آية، أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ لترتقي فيه فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ حتى يعاينوها فافعل، ولكن الأمر بيدي، فإنما أنت نذير.

قال البيضاوي: المقصود: بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إسلامهم، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي: لو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يُؤمنوا، ولكن لم تتعلق به مشيئته. وفيه حجة على القدرية. أو: لو شاء الله لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان، لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي: من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير، أي: دم على عدم كونك منهم، ولا تقارب حالهم بشدة التحسر هـ.

وقال في نوادر الأصول: أنَّ الخطاب به تربية له، وترقيةُ من حالٍ إلى حال، كما يُربَّى أهل التقريب ويُنقلُون من ترك الاختيار، فيما ظاهرُه بِرٌ وقربة. هـ. قلت: تشديد الخطاب على قدر علو المقام، كما هو معلوم


(١) أخرجه الترمذي فى: (تفسير سورة الأنعام) عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه-
(٢) الآيتان: ١٧١- ١٧٢ من سورة الصافات.

<<  <  ج: ص:  >  >>