يقول الحق جلّ جلاله: ومثل المنافقين أيضاً كأصحاب مطر غزير فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وهدير أصابهم في ليلة مظلمة وقفراء مُدْلهمة. فيه بَرْقٌ يلمع، وصاعقة تقمع، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ من الهول والخوف حذراً من موت أنفسهم، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم، وإذا ضرب البرق كاد أن يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، فإذا لمع أبصروا الطريق، ومَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين حائدين عن عين التحقيق، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بصوت ذلك الرعد، وَأَبْصارِهِمْ بلمعان ذلك البرق، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.
هذا مثلهم في تحيّرهم واضطرابهم، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب، وهو تشبيه الجملة بالجملة، أو من المفَصَّل، فيكون المطر مثالاً للقرآن، وفيه ذكر الكفر والنفاق المُشَبَّهَيْن بالظلمات، والوعد عليه والزجر المشبّه بالرعد، والحُجج الباهرة التي تكاد أحياناً تبهرهم المشبهة بالبرق، وتخوفهم، وروعُهم هو جَعْل أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا فيميلوا إلى الإيمان، وفَضْحُ نفاقهم وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها هي الصواعق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفوسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته. مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً.
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.