قلت:(أن لو نشاء) : «أن» مخففة، وهي وما بعدها: فاعل (يَهدِ) أي: أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك؟ وإنما عدى «يهدي» باللام لأنه بمعنى يتبين، و (نطبع) : استئناف، أي: ونحن نطبع على قلوبهم.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَهْدِ أي: يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي: يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم، أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أي: أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب ذنوبهم، كما أهلكنا من قبلهم، لكن أمهلناهم ولم نهملهم، وَنحن نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالغفلة والانهماك في العصيان، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
تِلْكَ الْقُرى، التي قصصنا عليك آنفًا، نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها من أخبارها، أي: بعض أخبارها، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالمعجزات، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم، بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مجيئها، يعني: أن ظهور المعجزات لم ينفعهم، بل الشيء الذي كذبوا به قبل مجيئها، وهو التوحيد وتصديق الرسل استمروا عليه بعد مجيئها.
أو: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا، حين جاءتهم الرسل، فلم تؤثر فيم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر.
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي: لأكثر أهل القرى مِنْ عَهْدٍ، بل جلّهم نقضوا ما عَهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي: علمناهم لَفاسِقِينَ، و «إن» مخففة، واللام: فارقة.
الإشارة: ينبغي لمن فتح الله بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم؟ قَدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفعهم الندم وقد زلَّت بهم القدم، فالدهر خطيب يُسمع القاصي والقريب، وهو ينادي بلسان فصيح، عادلاً عن الكناية إلى التصريح، قائلاً: أمَا حَصلَ لكم الإنذار؟ أما كفاكم ما تشاهدون في الاعتبار؟ أين من سلف قبلكم؟. أوَ ما كانوا أشد منكم أو مثلكم؟ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم، فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا، فيا أيها الغافلون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الباقون أنتم إليهم تساقون، قَضاءٌ مبرم، وحُكمٌ ملزم، ليس عنه محيد لأحد من العبيد.