وهؤلاء القوم، قيل: هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام، ولما رأهم بنو إسرائيل قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي: مثالاً نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها، قالَ لهم موسى عليه السلام:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، وَصَفَهُم بالجهل المطلق، وأكده بإن لبُعد ما صدر منهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.
قال البيضاوي: ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام، وآراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. هـ. وذكر في «القوت» أن يهوديًّا قال لعلى رضى الله عنه: كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف، ونبيكم قريب عهد بكم؟ فقال: أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم:
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. هـ.
ثم قال لهم موسى عليه السّلام: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ: مدمر هالك ما هُمْ فِيهِ يعني: أن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا. وَباطِلٌ: مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها، وإن قصدوا بها التقرُّب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب لكم إِلهاً أي: معبودًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: والحال أنه قد خصكم بنعم لم يُعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله لهم بما استحقوه تفضلاً، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته وأبلدَه، وهو البقر.
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي:، واذكروا صُنعه معكم في هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه يَسُومُونَكُمْ أي: يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ، ثم بينَّه بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ذكوركم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي: بناتكم، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: وفي ذلك القتل امتحان عظيم، أو في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم.
الإشارة: من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه، ولم يغرق فيه، لا يخلو من طلب شرك جلي أو خفي لأن النفس ما دامت لم تغرق في بحر الوحدة، ولم تسبها جمال المعاني، قطعًا تميل إلى شيء من جمال الحس، لأن الروح في أصلها عشاقة، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس، ومن ركن إلى شيء مما سوى الله فهو شرك عند الموحدين من المحققين، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد، وانفراد الوجهة إلى الله تعالى لأن بني إسرائيل لمَّا أنعم الله عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك، فسقطو من عين الله واستمر ذلهم إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.