للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ أي: اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها، أو: خذ من الناس، في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم لئلا ينفروا. فهو كقول الشاعر:

خُذِ العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي «١» ....

أو: خذ في الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس.

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي: لا تكافئ السفهاء على قولهم أو فعلهم، واحلم عليهم. ولمّا نَزَلَت سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم جبريلَ عنها، فقال: «لا أَدري حَتَّى أسأَلَ، فعرج، ثم رَجَعَ فَقَالَ: يا مُحَمَدَّ، إِنَّ الله يَأمُركَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وتَعفُو عَمَّن ظَلَمَكَ» «٢» . وعن جعفر الصادق: (أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق) ، وهي على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح. وقيل: كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال.

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ينخسنك منه نخس، أي: وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب، ومقابلة سفيه، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والتجئ إليه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع استعاذتك، ويعلم ما فيه صلاح أمرك، فالاستعاذة عند تحريك النفس مشروعة، وفي الحديث: أن رجلاً اشتد غضبه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأَعلَمُ كلِمة لو قالَهَا لذَهَبَ عنهُ ما به أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» «٣» .

الإشارة: كل ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم تُؤمر به أمته، وخصوصًا ورثته من الصوفية، فهم مطالبون بالتخلق بأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم أكثر من غيرهم، لأن غيرهم لم يبلغ درجتهم. وقال الورتجبي: خُذِ الْعَفْوَ: أي: فاعف عنهم من قلة عرفانهم حقك، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: تلطف عليهم في أمرك ونهيك لهم، فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الذين ليس لهم استعداد النظر إليك، ولا يعرفون حقوقك، فإنَّ منكر معجزات أنبيائي وكرامات أوليائي لا يبلغ إلى درجة القوم. قال بعض المشايخ- حين ذكر أهل الظاهر-: دع هؤلاء الثقلاء. هـ. فوصف علماء الظاهر بالثقلاء لثقل ظهورهم بعلم الرسوم، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم، وفي تائية ابن الفارض:


(١) هذا شطر بيت تمامه: (ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب) وهو لحاتم، راجع: تفسير أبى حيان (٤/ ٤٤٤) .
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (٩/ ١٥٥) عن سفيان بن عيينه عن أبى المرادي، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: (هذا منقطع، وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر وحديث قيس بن سعد) . انظر تفسير البغوي (٣/ ٣١٦) مع حاشية المحقق.
(٣) أخرجه بنحوه البخاري فى (بدء الخلق- باب صفه إبليس وجنوده) ومسلم فى (البر- باب فضل من يملك نفسه عند الغضب) من حديث سليمان بن صرد.

<<  <  ج: ص:  >  >>