قلت:(كما أخرجك) : خبر عن مبتدأ محذوف، أي: هذه الحال، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة، مثل حالهم في كراهية خروجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، أي: الأنفال تثبت لله وللرسول صلّى الله عليه وسلّم، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك، يعني المدينة لأنها مسكنه أو بيته منها، وجملة:(وإن فريقاً) :
حال مِن أخرجك، أي: أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلّم: قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لقتال العدو، والحال أن فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك لذلك، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله، فإنهم راضون مستسلمون، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي: يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، حيث أرادوا الرجوع للمدينة، وقالوا: إنا لم نخرج لقتال، قالوا ذلك بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم أنهم منصورون أينما توجهوا، بإعلام الرسول لهم، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي: يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلاَّ فارسان، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخرج لقصد الجهاد، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعمرو بنُ العاص، ومخرفة بن نوفل، وعمرو بن هِشَام، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلّم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام، فأخبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين، فأعْجَبَهُم تلقيها، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ، فلما خرجُوا، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان، فسلك بالعير طريق السَاحِل، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعيرهم، نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة، النَّجَاء النجاء، على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً.
وقد رأت، قبل ذلك بثلاث ليال، عاتكةُ بنت المطلب، رؤيا وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى:
يا آل لكع، اخرجوا إلى مصارعكم، ثم تمثل على الكعبة، فنادى مثل ذلك، ثم أخذ حجراً فضرب به، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر، فحدثت بها العباس، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثاً، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم.