للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (إن) : شرط، و (ما) زيدت لتقوية الشرط، ولذلك دخلت نون التوكيد، وعبر بإن دون (إذا) ، مع تحقق مجيئ الهدى لأنه غير واجب عقلاً، وجملة الشرط الثاني وجوابه، الشرط الأول، و (جميعاً) حال مؤكدة أي:

اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يقتضى اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد.

ولما أمر الحقّ جلا جلاله آدم أولاً بالهبوط من الجنة، جعل يبكي ويتضرّع ويقول: ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تدخلني جنتك؟ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه، فتاب عليه ورحمه، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته في البقاء في الجنة، فقال له الحق جلّ جلاله: يا آدم لا يجاورني من عصاني، وقد سبقت كلمتي بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتي بذريتك، فكرّر عليه الأمر بالهبوط ثانياً. فقال: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما. فمهما يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي: بيان وإرشاد إلى توحيدي ومعرفتي، على يد رسول أو نائب عنه، فَمَنْ تَبِعَ ذلك الإرشاد، واهتدى إلى معرفتي وتوحيدي، وعمل بطاعتي وتكاليفي، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب، لأني أَصرف عنهم جميع المكاره، وأجلب لهم المنافع، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا المنزلة على رسلنا، واستكبروا عن النظر فيها، أو عن الخضوع لمن جاء بها، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

الإشارة: إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة، وتمكنت من الشهود والنظرة، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فتنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج، فكان من المغرقين. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأن مَن تحقق ولم يتشرّع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسّق، ومَن جمع بينهما فقد تحقق، جعلنا الله ممن تحقّق بهما. وسلك على منهاجهما إلى الممات، آمين.

ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه، ونفى وجود الريب عن ساحته، ثم دعا إلى توحيده، ويرهن على وجوده، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه، وذكر كيفية ابتداء عمارته، خاطب بني إسرائيل لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة، وقد سمعوا هذه الأخبار من نَبِي أُمِّي لم يُعْهَدْ بقراءةٍ ولا تعلم، فقامت الحجة عليهم، وتحققوا أنه من عند الله. وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة، فلذلك أطال الحق الكلام معهم، تارةً يُقرِّعَهم على عدم

<<  <  ج: ص:  >  >>