للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجّة فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: ١٨] وقال: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:

٥٣] وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: ٢٢] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: ٢٣] ، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ ولا يكون القسم إلا باسم معظّم، وقد أقسم الله تعالى بنفسه، في القرآن في سبعة مواضع، بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: ٥٣] ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: ٧] ، فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم ٦٨] ، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: ٦٥] ، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: ٤٠] ، والباقي كله قسم بمخلوقاته. فإن قيل: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلنا أجيب عنه بأوجه: الأول أنه على حذف مضاف أي ورب النّجم. وكذا الباقي. الثاني: أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه. الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظّمه المقسم ويجلّه وهو فوقه. والله سبحانه وتعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بموضوعاته لأنها تدل على بادئ وصانع.

ابن أبي الإصبع [ (١) ] رحمه الله تعالى في كتابه أسرار الفواتح: «القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.

وروى ابن حاتم عن الحسن قال: «أن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى ... والقسم إما ظاهر وإما مضمر وهو قسمان: قسم دلّت عليه اللام نحو لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ [آل عمران: ١٨٦] وقسم دلّ عليه المعنى نحو: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] تقديره: والله ... وأكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [الأنعام: ١٠٩] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ [النساء: ٦٢] ولا تجد الباء مع حذف الفعل، ومن ثم أخطأ من جعل قسما


[ (١) ] حرثان بن الحارث بن محرث بن ثعلبة، من عدوان، ينتهي نسبة إلى مضر: شاعر حكيم شجاع جاهلي. لقب بذي الإصبع لأن حية نهشت إصبع رجله فقطعها، ويقال: كانت له إصبع زائدة. وعاش طويلا حتى عدّ في المعمرين. له حروب ووقائع وأخبار. وشعره مليء بالحكمة والعظة والفخر، قليل الغزل والمديح، وهو صاحب القصيدة المشهورة التي يقول في أولها:
«أأسيد إن مالا ملكت ... فسر به سيرا جميلا»
انظر الأعلام ٢/ ١٧٣.