يذكر أهل السير إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد قبل البعثة على دين الحنيفية وذلك في غار حراء قال ابن كثير:
وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه. وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة- قال: وكان واعية- عن بعض أهل العلم قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسّك فيه وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة. هكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش أنهم يجاورون في حراء للعبادة ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
وهكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي وأبو شامة وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق ليرى في حر ونازل- وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم.
وحراء يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى، له قلة شرفة على الكعبة منحنية والغار في تلك الحنية وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج:
فلا وربّ الآمنات القطّن ... وربّ ركن من حراء منحني
وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البنية فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث ولكن سمعت ألفاظا قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء كحنث أي خرج من الحنث وتحوب وتحرج وتأثم وتهجد هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة وتنجس وتقذر أوردها أبو شامة. وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد. فقال: لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا جدف وجذف كما قال رؤبة: