للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب الخامس في كيفية الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تكررّ أم لا

وفيه فصلان: الأول: اعلم أنه لا خلاف في صحة الإسراء به صلى الله عليه وسلم. إذ هو نصّ القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه أحاديث كثيرة منتشرة عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم بعد في باب مفرد، وإنما الخلاف في كيفية الإسراء، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال: الأول وهو قول الأكثر إنه كان بالروح والجسد معا يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء العليّ الأعلى.

قال القاضي وغيره: «وهو الحق وعليه تدل الآية نصّا وصحيح الأخبار إلى السموات استفاضة ولا يعدل عن الظاهر من الآية والأخبار الواردة فيه، ولا عن الحقيقة المتبادرة إلى الأذهان من ألفاظهما، إلى التأويل، إلا عند الاستحالة وتعذّر حمل اللفظ على حقيقته، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان مناما لقال: سبحان الذي أسرى بروح عبده، ولم يقل: بعبده، والعبد حقيقة هو الروح والجسد، ويدل عليه قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] أي ما عدل عن رؤية ما أمر برؤيته من عجائب الملكوت وما جاورها لصراحة ظاهرة في كونه بجسده يقظة لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده بشهادة: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: ١٨] . ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة تورث عدم صدقه، وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيا، إذ ليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة. وأيضا لو كان مناما لما استبعده الكفّار ولا كذّبوه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، لبعده عن ساحة العادة، ووقوعه في زمن يستبعد فيه جدا، إذ مثل هذه المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك الاستبعاد والتكذيب، والارتداد والافتتان إلا وقد علموا أن خبره إنما هو عن جسمه وحال يقظته» .

وقد روى البخاري في باب الإسراء من صحيحه، وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:

٦٠] هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. زاد سعيد: «وليست رؤيا منام» .

قال الحافظ: «إضافة الرؤية للعين للاحتراز عن رؤيا القلب. وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن بقوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١] ، ورؤية العين بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] . وأما ما رواه ابن مردويه عن طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية قال: «رأى أنه وصل مكة وأصحابه. فلما ردّه المشركون كان