للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سبيله، وخرج حتّى أتى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبات به حتّى أصبح فلما أصبح غدا فلم يدر أنّى هو حتّى السّاعة فذكر شأنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

فقال: «ذاك رجل نجّاه الله بوفائه»

[ (١) ] .

[ذكر طلب يهود أبي لبابة وما وقع له ونزول توبته]

قال أهل المغازي وجدّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حصارهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة السبت أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر [ (٢) ] فنستشيره في أمرنا فأرسله إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قام إليه الرّجال وبهش إليه النّساء والصّبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، فقال كعب بن أسد: يا أبا لبابة، إنّا قد اخترناك على غيرك، إن محمدا قد أبى إلّا أن ننزل على حكمه أفترى أن ننزل على حكمه؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذّبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي عن مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله. فندمت واسترجعت فنزلت وإنّ لحيتي لمبتلّة من الدّموع، والنّاس ينتظرون رجوعي إليهم حتّى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، ولم آت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارتبطت وكان ارتباطي على الأسطوانة المخلقة التي يقال لها أسطوانة التّوبة، وقلت لا أبرح من مكاني حتّى أموت أو يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهدت الله تعالى بألا أطأ أرض بني قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلّم- فيه أبدا،

وبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذهابي وما صنعت، فقال: «دعوه حتّى يحدث الله تعالى- فيه ما شاء، لو كان جاءني استغفرت له، فإذا لم يأتني وذهب، فدعوه» .

وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال ٢٧] قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم، في حر شديد عدّة ليال لا آكل فيهنّ ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتّى أفارق الدّنيا، أو يتوب الله عليّ. وأذكر رؤيا رأيتها في النّوم ونحن محاصرون بني قريظة. كأنّي في حمأة آسنة، فلم أخرج منها حتّى كدت أموت من ريحها، ثمّ أرى نهرا جاريا فأراني اغتسلت فيه حتّى استنقيت وأراني أجد ريحا طيّبة فاستعبرتها أبا بكر فقال: لتدخلنّ في أمر تغتمّ له، ثمّ يفرج عندئذ، فكنت أذكر قول أبي بكر وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله تعالى- توبتي. قال: فلم أزل كذلك حتّى ما أسمع الصّوت من الجهد- ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر إليّ.

قال ابن هشام: أقام مرتبطا ستّ ليال تأتيه امرأته كلّ صلاة فتحلّه حتّى يتوضّأ ويصلي ثمّ يرتبط.


[ (١) ] ذكره الحافظ ابن كثير في البداية ٤/ ١٢١.
[ (٢) ] أبو لبابة، الأنصاري المدني، اسمه بشير، وقيل رفاعة بن عبد المنذر، صحابي مشهور، وكان أحد النقباء، وعاش إلى خلافة عليّ، ووهم من سماه مروان. التقريب ٢/ ٤٦٧.