وأما إذا فضل بعضهم على بعض، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، رحمهم الله تعالى- أنه مكروه وليس بحرام، والهبة صحيحة.
وقال الإمام أحمد: هو حرام، واحتج
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشهدني على جور» ،
واحتج الشافعي
بقوله: «أشهد على هذا غيري» .
فإن قيل: قاله تهديدا، قلنا: الأصل في كلام الشارع غير هذا، ويحتمل عند إطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب، فإن تعذر فعلى الإباحة، وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا أشهد على جور» ،
فليس فيه أنه حرام، لأن الجور هنا الميل عن الاستواء والاعتدال فكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواء كان حراما أو مكروها، وقد وضح بما قدمناه
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أشهد على هذا غيري»
دليل على أنه ليس بحرام، فيجب تأويله على أنه مكروه كراهة تنزيه، قاله النووي في شرح مسلم.
[تنبيه:]
لما نقل ابن الملقن هذه الخصوصية عن القضاعي قال: وفي هذا نظر بالنسبة إلى غيره.
قال الحضيري: وفي هذا النظر نظر أيضاً، فإن ظاهره يقتضي منع الخصوصية في عدم الشهادة على الجور فإن غيره من الناس مثله في ذلك، فلا تجوز الشهادة على الجور مطلقا، هذا يعني مقتضى كلامه، وليس بجيد فإن من الجور ما هو محرم، فلا تجوز الشهادة عليه، ومنه مكروه فلا تجوز في حقه صلى الله عليه وسلم، وتجوز في حق غيره، كما في هذه القصة، حيث حملنا ذلك على الكراهة كما في الصحيح، فإنه سمى ذلك جورا، وقال: «أشهد غيري» ، وهذا ينبني على أمر آخر، وهو المراد بالشهادة على الجور، هل هي بحملها أو أدائها؟ فإن قلنا: بحملها، ففي حقه صلى الله عليه وسلم لا يجوز ذلك، لأنه لا يقر على باطل ولا مكروه، وأما غيره، فالذي يظهر أنه يجوز مطلقا، سواء كان محرما أو مكروها، لأن الأمر دائر بين ظالم ومظلوم، فتحمل الشهادة على ذلك يحتاج إليها المظلوم في خلاص حقه عند طلبه فلا يمتنع، ولو كان الظالم لا يحتاجها.
وإن قلنا: المراد الأداء، فهي ممتنعة في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه هو الحاكم والمشرع، فلا يمكن ردها عند غيره، اللهم إلا أن يقال: يشهد فيها ليحكم فيها بعلمه، وهو محل نظر، وأما غيره فلا يمتنع قطعا.
[الخامسة والعشرون:]
وبتحريم الخمر عليه من أول ما بعث قبل أن تحرم على الناس بنحو عشرين سنة، فلم تبح له قط، ولم يشربها قط.
روى ابن حبان عن عروة بن رويم مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر، وملاحاة الرجال» .