في جماع أبواب ما يخصه- صلى الله عليه وسلم- من الأمور الدنيوية وما يطرأ عليه من العوارض البشرية وكذا سائر الأنبياء
[الباب الأول في حاله في جسمه صلى الله عليه وسلم]
قال القاضي: فيما يخصّهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية قد قدّمنا أنه- صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء والرسل من البشر، وأنّ جسمه وظاهره خالص للبشر، يجوز عليه من الآفات والتغييرات، والآلام والأسقام، وتجرّع كأس الحمام ما يجوز على البشر، وهذا كلّه ليس بنقيصة فيه، لأنّ الشيء، إنما يسمّى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتمّ منه وأكمل من نوعه، وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون، وخلق جميع البشر بمدرجة الغير، فقد مرض صلى الله عليه وسلم، واشتكى، وأصابه الحرّ والقرّ، وأدركه الجوع والعطش، ولحقه الغضب والضّجر، وناله الإعياء والتّعب، ومسّه الضّعف والكبر، وسقط فجحش شقّه، وشجّه الكفّار، وكسروا رباعيته، وسقي السمّ، وسحر، وتداوى، واحتجم، وتنشّر وتعوّذ، ثم قضى نحبه فتوفّي صلى الله عليه وسلم، ولحق بالرفيق الأعلى، وتخلّص من دار الامتحان والبلوى، وهذه سمات البشّر التي لا محيص عنها، وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه، فقتلوا قتلا. ورموا في النار، ووشروا بالمياشير. ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات. ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبيّنا من الناس، فلئن لم يكف نبيّنا ربّه يد ابن قميئة يوم أحد، ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور، وأمسك عنه سيف غورث، وحجر أبي جهل، وفرس سراقة، ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم، من سمّ اليهودية.
وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى، وذلك من حكمته، ليظهر شرفهم في هذه المقامات، ويبيّن أمرهم، ويتمّ كلمته فيهم، وليحقّق بامتحانهم بشريّتهم، ويرتفع الالتباس عن أهل الضّعف فيهم لئلا يضلّوا بما يظهر من العجائب على أديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم، وليكون في محنهم تسلية لأممهم، ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الّذي أحسن إليهم.