جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي: قياماً لدينهم ودنياهم، وجعل الحجر من ياقوت الجنة الذي لا يبالي بالنار ويحصل منه التبريد المعنوي والحسي:
قال السهيلي- رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر شيئاً يتعلق بالحجر الأسود: وانتبه من هاهنا إلى الحكمة في أنه سوّدته خطايا بني آدم دون غيره من أحجار الكعبة وأستارها وذلك أن العهد الذي فيه هو الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله تعالى، فكل مولود يولد على تلك الفطرة وعلى ذلك الميثاق، فلولا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه حتى يسودّ قلبه بالشّرك لما حال عن العهد، فلما صار قلب ابن آدم محلاً لذلك العهد والميثاق وصار الحجر محلاً لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق فتناسبا، فاسودّ من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان ولد عليه من ذلك العهد، واسودّ الحجر الأسود بعد ابيضاضه، وكانت الخطايا سبباً في ذلك حكمة من الله تعالى.
وروى أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رحمه الله تعالى قال: كنت مع أبي محمد بن علي، فقال له رجل: يا أبا جعفر ما بدء خلق هذا الركن؟ فقال: إن الله- تعالى- لما خلق الخلق قال لبني آدم: ألست بربّكم؟ قالوا: بلى، فأقرّوا فأجرى نهراً أحلى من العسل وألين من الزبد، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر، فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا القلم الحجر، فهذا الاستلام الذي يرى إنما هو تبعية على إقرارهم الذي كانوا أقّروا به.
وروى عبد الرازق في المصنف وأبو الشيخ عن فاطمة بنت حسن- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما أخذ الله الميثاق من بني آدم جعله الله- تعالى- في الركن، فمن الوفاء بعهد الله تعالى استلام الحجر.
وروى الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطّان في المطوّلات والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: حججنا مع عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فلما دخل في الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم قبّله [ (١) ] ، فقال له علي
[ (١) ] أخرجه البخاري ٣/ ٥٤٠ كتاب الحج (١٥٩٧، ١٦٠٥، ١٦١٠) ومسلم ٢/ ٩٢٥، ٩٢٦ كتاب الحج (٢٥١/ ١٢٧٠) وما ذكر عن علي لم يرد في الصحيحين.