لها ويسأل التخفيف عنها فلقوله- والله أعلم- حين قضي إليه الأمر بجانب القربى ورأى صفات أمة محمد عليه السلام في الألواح وجعل يقول: إني أجد في الألواح أمّة صفتهم كذا:
اللهم اجعلهم أمتي. فيقال له: تلك أمة محمد. قال: اللهم اجعلني من أمة محمد، وهو حديث مشهور في التفاسير. فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم يعتني بالقوم من هو منهم لقوله: اللهم اجعلني منهم» .
[التنبيه الحادي والتسعون:]
في قول موسى:«قد عالجت الناس قبلك» إلى آخره دليل على أن علم التجربة زائدة على العلوم، ولا يقدر على تحصيله بكثرة العلوم ولا يكتسب إلا بها، أعني التجربة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأفضلهم سيّما وهو حديث عهد بالكلام مع ربه تبارك وتعالى وورد إلى موضع لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ثم مع هذا الفضل العظيم قال له موسى عليه السلام:«أنا أعلم بالناس منك» ، وذكر له العلّة التي لأجلها كان أعلم منه بقوله:«عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة» . فأخبره أنه أعلم منه في هذا العلم الخاص الذي لا يوجد ولا يدرك إلا بالمباشرة وهي التجربة.
[التنبيه الثاني والتسعون:]
وفيه دليل على جواز الحكم بما أجرى الله تعالى بحكمته من ارتباط العوائد لأن موسى عليه السلام حكم على هذه الأمة بأنها لا تطيق، وذلك سبب ما أخبر به وهو علاج بني إسرائيل، ومن تقدّم أقوى وأجلد ممّن يأتي بعد، كما أخبر تعالى بقوله:
كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الروم: ٩] فرأى موسى أن ما لم يحمله القويّ فمن باب أولى ألا يحمله الضعيف فهو بعد محكم بأثر الحكمة في ارتباط العادة، مع أن القدرة صالحة لأن يحمل الضعيف ما لا يحمل القويّ. وقد ورد أن الصلاة التي كلّف بها بنو إسرائيل ركعتان بالغداة وركعتان بالعشيّ ومع هذا لم يقوموا بذلك.
[التنبيه الثالث والتسعون:]
وفي سؤال موسى طلب التخفيف عن هذه الأمة دليل على أن بكاءه أوّلا حين صعود النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا للوجه الذي أبديناه لا لغيره، لأنه لو كان لغير ذلك لبكى حين رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أو سكت، ولكنه قام في الخدمة والنصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن كان بكاؤه أوّلا للوجه الذي ذكرناه ولم يصادف ما أشرنا إليه وإنما كانت هذه النّفحة من النّفحات الخاصّة بالنبي صلى الله عليه وسلم، تعرّض أيضا لهذه الأمة بطلب التخفيف، فصادف اعتراض هذه النفحة في موضعها لأنها خاصة بهذه الأمة. وتكلم هو صلى الله عليه وسلم في حقّها فأشعف فيما أراد وحقّق الله عز وجل دعاءه إذ ذاك وردّ الخمسين إلى خمس، وزاد بالإفضال فجعل الحسنة عشرا في الثواب عليها، فأزال الله تعالى عن الأمة فرض تلك الصلوات وأبقى لهم ثوابها تفضلا منه وإحسانا.