الابتداء والواسطة من دليل العقل بتجويزه إياه إذا جاز هذا ولم يستحل، وجاءت الرسل- عليهم الصلاة والسلام- بما دل على صدقهم من معجزات وجب على المرسل إليهم تصديقهم في جميع ما أتوا به مما كلفوا بتبليغه لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه واتّبعوه وشاهد على صدقه فيما يقوله من دعواه النبوة والرسالة إلى من أرسل إليهم، وهذا كان في قضائه بإمكان ما ذكر وأن المعجز مؤذن بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لقيامه مقام إخبار الله تعالى بأنه صادق تجري عادته في خلق العلم بصدقهم علما ضروريا.
[الفصل الثالث]
قال القاضي- رحمه الله تعالى-: أعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء من الآيات الخارقة للعادة معجزة هو أنّ الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها، فكان عجزهم عنها سببا لتسميتها معجزة من العجز المقابل للقدرة، وحقيقة الإعجاز إثبات عجز المرسل إليهم، استعير لإظهار عجزهم ثم استند إلى ما هو سبب لإظهاره من الخوارق، والمعجزة على ضربين: من حيث كونها مقدورة للبشر وغير مقدورة، وله ضرب هو من نوع ما يمكن دخوله تحت قدرة البشر ويمكنهم الإتيان به فعجزوا عنه فتعجيز الله إياهم عنه فعل لله تعالى دل على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كصريح قوله: صدق عبدي في دعواه الرسالة لجري العادة بخلقه تعالى علما ضروريا بصدقه كمن قال لجمع أنا رسول الله- تعالى- إليكم ثم نتق فوقهم جبلا، ثم قال: إن كذبتموني وقع عليكم وإلا انصرف عنكم فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم أو تكذيبه قرب منهم، فإنهم يعلمون ضرورة صدقه مع قضاء العادة بامتناع صدور ذلك من الكاذب منهم، كصرف اليهود عن تمني الموت إذ يعجزهم عن تمنيه مع إمكانه فيعلمون ضرورة أنه صادق.
وضرب من المعجزة وهو خارج عن قدرتهم، فلم يقدروا على الإتيان بمثله كإحياء الموتى، إذ ليس من جنس أفعالهم وأما إحياؤهم على يد عيسى صلى الله عليه وسلم معجزةً له، فكأنما كان من الله تعالى لأمّته شهادة، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى «وأن تخرج الموتى بإذني» وقلب العصا حية تسمى معجزة لموسى صلى الله عليه وسلم، وإخراج ناقة من صخرة بلا واسطة وأسباب معهودة معجزة لصالح صلى الله عليه وسلم، وكلام الشجرة، ونبع الماء من بين الأصابع وانشقاق القمر معجزات لنبينا صلى الله عليه وسلم مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا الله فيكون ذلك على يد النبي صلى الله عليه وسلم من فعل الله تعالى حقيقة وتحدّيه من يكذبه إن طلب منه أن يأتي بمثله تعجيز له عن ذلك.
واعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وبراهين صدقه من هذين النوعين معا أي لما هو من نوع قدرة البشر، وما هو خارج عنها، وهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء معجزة، وأبهرهم آية وأظهرهم برهانا، وهي مع كثرتها لا يحيط بها ضبط فإن واحدا منها وهو