للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واحتجّ من قال بهذا القول بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] ولو كان يقظة لقال: «الرؤية» بالتاء، وقول أنس في حديثه في رواية شريك:

«وهو نائم بالمسجد الحرام» . وذكر القصة الواردة ليلة الإسراء، ثم قال في آخرها:

«استيقظت- أي انتبهت- من منامي وأنا في المسجد الحرام» . وهذا المذهب يعزى لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فإن ابن إسحاق قال: «حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«كانت رؤيا من الله تعالى صادقة» . ويعقوب وإن كان ثقة إلا أنه لم يدرك معاوية فالحجة منقطعة.

ويعزى أيضا إلى عائشة رضي الله عنها، قال ابن إسحق: «حدّثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: «ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه» . كذا فيما وقفت عليه من نسخ السيرة «فقد» بالبناء للمفعول. وفي الذي وقفت عليه من نسخ الشّفا للقاضي «ما فقدت» بالبناء للفاعل وإسناد الفعل إلى تاء المتكلّم.

وأجيب عن الأول بأن «الرؤيا» قد تكون بمعنى «الرؤية» في اليقظة كما نقله أبو الخطاب ابن دحية عن ابن عباس. قال الشيخ السهيلي في الروض: «وأنشدوا للراعي يصف صائدا:

وكبّر للرّؤيا وهشّ فؤاده ... وبشّر قلبا كان جمّا بلابله

وقوله: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] يدل على أنها رؤية عين، وإسراء شخص، إذا ليس في الحلم فتنة للناس من تعجّبهم تعجّب استحالة، حتى ارتدّ كثير ممن آمن. وقال الكفّار:

«يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلته، والعير تطّرد إليها شهرا مقبلة وشهرا مدبرة. ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد أحد منهم هذا، فمعلوم أن النائم قد يرى نفسه في السماء وفي المشرق وفي المغرب فلا يستبعد منه ذلك، ويؤيد كونها يقظة ما ورد من شربه تلك الليلة الماء الذي كان لسفّار قريش، وضعوه في بعض مراحلهم في قدح وغطّوه، فأصبحوا ولا ماء فيه، فعجبوا لذلك. وإرشاد أصحاب العير الذين ندّ بعيرهم حين أنفره حسّ البراق حتى دلّهم عليه، فأخبر أهل مكة بأمارة ذلك، حتى ذكر الغرارتين السوداء والبرقاء، ووعده لقريش بقدوم العير التي أرشد أصحابها إلى بعيرهم وشرب مائهم أن يقدموا يوم الأربعاء» . كما سيأتي بيان ذلك مبسوطا في القصة. وهذا كله لا يكون إلا يقظة وقد تقدم في القول الأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: هذه رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فراجعه.