للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه الصلاة والسلام في مواطن الضرب والطعن والانتشاب في نحر العدو، ولما كان الله تعالى خصه بمزيد من الشجاعة والقوة. وإلا فالبغال عادة من ركوب الطمأنينة والأمنة، فبيّن أن الحرب عنده كالسّلم قوّة قلب وشجاعة نفس، وثقة وتوكّل. وركبت الملائكة في الحرب على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات. ولطف شكل البراق لما وصفه، عن شكل البغل، وما لطف من البغال واستدار أحمد وأحسن من المطهمات [ (١) ] منها، وذلك بخلاف الخيل.

ولم يسمّ الله سبحانه وتعالى سير البراق برسوله صلى الله عليه وسلم طيرانا، وإنما سمّاه بما يسمّى به السير المعتاد وسير الليل عند العرب سرى، فيؤخذ من هذا أن الوليّ إذا طويت له الأرض البعيدة في الساعة الواحدة يتناوله اسم المسافر، ويشمله أحكام السّفر باعتبار القصر والفطر.

وإنما لم يذكر البراق في الرجوع لأن ذلك معلوم بذكره في الصعود، كقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] يعني والبرد.

قال في فتح الصفا: فإن قيل: هلّا كان الإسراء على أجنحة الملائكة والريح كما كانت تحمل سليمان عليه الصلاة والسلام أو الخطوة كطيّ الزمان؟ قلت المراد اطلاعه على الآيات الخارقة للعادة، وما يتضمّن أمرا عجيبا، ولا عجب في حمل الملائكة أو الريح بالنسبة إلى قطعة هذه المسافة، بخلاف قطعها على دابّة في هذا الحجم المحكيّ عن صفتها، ووقع من تعظيمه بالملائكة ما هو أعظم من حمله على أجنحتها فقط. فقد أخذ جبريل بركابه وميكائيل بزمام البراق، وهما من أكابر الملائكة، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم حمل البراق، وما هو كحمل البراق من الملائكة وهذا أتمّ في الشرف.

واختلفت الأقاويل في صفته، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكر. وقال صاحب الاحتفال: إنه دون البغل وفوق الحمار، وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال. وقال غيره: جسده كجسد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درّة بيضاء. له جناحان في فخذيه وهذا كله لم يصحّ منه شيء، وما ذكره عن ابن عباس أمثلها، ولعل السّرّ في كونهما في فخذيه لثقل مؤخّر الدابّة، أو لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو لأجل الراكب، لأنّهما لو كانا في جنبيه على العادة لكانا تحت فخذي الراكب أو فوقهما، ويحصل له من ذلك مشقة بضمّهما ونشرهما خصوصا مع السرعة العظيمة.


[ (١) ] المطهّم: المنتفخ الوجه. وقيل: الفاحش السّمن. وقيل: النّحيف الجشم، وهو من الأضداد. انظر النّهاية لابن الأثير ٣/ ١٤٧.