فاطلب أحداً يكون معك واحمل معك شيئاً تأكله، فإنك لن تستطيع ما نستطيع نحن. ففعلت ولقيت أخي فعرضت عليه فأبى، فأتيتهم فتحمّلوا، فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل، فأتينا بيعة بالموصل، فلما دخلوا حفّوا بهم وقالوا: أين كنتم؟
قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى عبدة النيران، فطردونا فقدمنا عليكم.
فلما كان بعد قالوا: يا سلمان إن ها هنا قوماً في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم فكن أنت ها هنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين وسترى منهم ما تحب. قلت: ما أنا بمفارقكم قال: وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل البيعة: أقم معنا يا غلام فإنه لا يعجزك شيء ببيعتنا. قال:
قلت ما أنا بمفارقكم. فخرجوا وأنا معهم فأصبحنا بين جبال، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال: يخرج رجل رجلاً من مكانه، كأنّ الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا فرحبوا بهم وحفّوا وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا ببلاد لا يذكرون الله تعالى، فيها عبدة النار وما يعبدون الله فيها، فطردونا.
فقالوا: ما هذا الغلام؟ فطفقوا يثنون عليّ وقالوا صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا. قال:
فو الله إنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف طوال، فجاء حتى سلّم عليهم وجلس فحفّوا به وعظّمه أصحابي الذين كنت معهم وأحدقوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه. فقال: ما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا عليّ خيراً وأخبروه بإتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله تعالى من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى ابن مريم وأنه ولد بغير ذكر، فبعثه الله رسولاً وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل وعلّمه التوراة، وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل فكفر به قوم وآمن به قوم. وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه إنما كان عبداً أنعم الله عليه فشكره ذلك له ورضي عنه. ثم وعظهم وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا فيخالف بكم.
ثم أراد أن يقوم فقلت: ما أنا بمفارقك فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا ألا كل يوم أحد. قلت: ما أنا بمفارقك.
قال: فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائماً ولا طاعماً، إلا راكعاً وساجداً إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه.
فلبثت ما شاء الله، يخرج كلّ يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم، ويوصيهم. فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال: يا هؤلاء إني كبرت سنّي ورقّ عظمي واقترب أجلي وإنه لا عهد لي بهذا البيت من منذ كذا كذا، ولا بد لي من إتيانه. فقلت: ما أنا بمفارقك.