حديد اللسان حديد النّظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أكلّ هذا فرق من أن أشاتمه: قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت، ضمضم بن عمرو الغفاريّ وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدّع بعيره، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب، اللّطيمة اللّطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، والله ما أرى أن تدركوها، ففزعت قريش أشدّ الفزع، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، فشغله ذلك عني، وشغلني عنه ما جاء من الأمر. وقالت عاتكة:
ألم تكن الرؤيا بحقّ وجاءكم ... بتصديقها فلّ من القوم هارب
فقلتم- ولم أكذب-: كذبت وإنّما ... يكذّبنا بالصّدق من هو كاذب
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظنّ محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرميّ- أي الآتي في السّرايا- كلّا والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وكان جهازهم في ثلاثة أيام، ويقال: في يومين، وأعان قويّهم ضعيفهم وقال سهيل بن عمرو، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عديّ، وحنظلة بن أبي سفيان يحضّون الناس على الخروج. وقال سهيل: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصّباة معه من شبّانكم، وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم، من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوة فهذه قوّتي، فمدحه أمية بن أبي الصّلت بأبيات، ومشى نوفل بن معاوية إلى أهل القوة من قريش، فكلمّهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت، وأخذ من حويطب بن عبد العزّى مائتي دينار، ويقال: ثلاثمائة دينار، وقوي بها في السلاح والظهر، وحمل طعيمة بن عديّ على عشرين بعيرا، وقوّاهم وخلفهم في أهلهم بمعونة، ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صفّ محمد وأصحابه، ولا مسلما يعلمون إسلامه، ولا أحدا من بني هاشم، إلا من لا يتّهمون، إلا أشخصوه معهم، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين.
وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا، ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا. ويقال: إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة- وأسلم بعد ذلك- وكان قد ليط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره، على أن يجزي عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب، منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول: رؤيا عاتكة كأخذ باليد، واستقسم أمية بن خلف، وعتبة، وشيبة، وزمعة بن الأسود، وعمير بن وهب، وحكيم بن حزام، وغيرهم، عند هبل بالآمر والنّاهي من الأزلام فخرج القدح النّاهي عن الخروج، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل بن هشام. ولما أجمع أمية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا