خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجّاها الله، فارجعوا، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر، ونطعم الطّعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها.
وكره أهل الرأي المسير، ومشي بعضهم إلى بعض، وكان ممّن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، وأبو البختريّ، وعليّ بن أمية بن خلف، والعاص بن منبّه، حتى بكّتهم أبو جهل بالجبن، وأعانه عقبة بن أبي معيط، والنّضر بن الحارث بن كلدة. وأجمعوا المسير.
وقال الأخنس بن شريق- وكان حليف بني زهرة-: يا بني زهرة قد نجّى الله أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هؤلاء، فرجعوا، وكانوا نحو المائة، ويقال: ثلاثمائة، فما شهدها زهريّ إلا رجلين هما عمّا مسلم بن شهاب الزهري، وقتلا كافرين.
قال ابن سعد: ولحق قيس بن امرئ القيس أبا سفيان فأخبره مجيء قريش، فقال:
وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هاشم، يعني أبا جهل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعا معظّما، وأرادت بنو هاشم الرّجوع فاشتدّ عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
قال ابن سعد: وكانت بنو عدي بن كعب مع النّفير، فلما بلغوا ثنيّة لفت عدلوا في السّحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا بني عديّ، كيف رجعتم، لا في العير ولا في النفير؟ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ويقال: بل لقيهم بمر الظّهران، ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رحلة، وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمىء المسلمون، وأصابهم ضيق شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسول الله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلّون مخبتين، فانزل الله تعالى تلك الليلة مطرا كثيرا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلّا طهّرهم الله به، وأذهب عنهم رجز الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلّب الرمل، وثبّت الأقدام، ومهّد به المنزل،