وردّه، وليس بمنكر عندي، وقال الشيخ رحمه الله في شرح سنن أبي داود: إذا فسّرنا الحديث بأنّ الروح تتشكّل طائرا، فالأشبه أنّ المقصود بذلك القدرة على الطيران فقط، لا في صورة الخلقة، لأن شكل الآدميّ أفضل الأشكال، قلت: وصرّح بذلك ابن برجان في الإرشاد.
ويؤيّده كلام السّهيلي الآتي في غزوة مؤتة، ويشهد له حديث ابن عباس، أي الذي ذكرته آخر التنبيه الذي قبل هذا. انتهى كلام أبي القاسم رحمه الله تعالى.
وقال ابن كثير: كان الشهداء أقساما، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر، أي بارق بباب الجنة، كما سبق في حديث ابن عباس، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر- أي بارق- فيجتمعون هناك ويغدى عليهم برزقهم ويراح.
وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى في شرح المصابيح: قوله: أرواحهم في أجواف طير خضر، أي يخلق الله تعالى لأرواحهم، بعد ما فارقت أجسادها، هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم، فيتوسّلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللّذّات الحسّيّة. واطّلاع الله تعالى عليهم، واستفهامه عمّا يشتهون مرة بعد أخرى مجاز عن تلطفه بهم، وتضاعف تفضّله وإنّما قال:«اطّلاعه» ، ليدل على أنه ليس من جنس اطّلاعنا على الأشياء، وعدّاه بإلى، وحقه أن يعدّى بعلى، لتضمّنه معنى الانتهاء، والمراد بقوله:«فلما رأوا أنهم لن يتركوا ... إلخ» أنه لا يبقى لهم متمنّى ولا مطلوب أصلا، غير أن يرجعوا إلى الدنيا فيستشهدوا ثانيا، لما رأوا بسببه من الشرف والكرامة.
وأوّل بعضهم رواية في جوف طير خضر بأن جعل «في» بمعنى «على» ، والمعنى أرواحهم على جوف خضر كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه ٧١] أي على جذوع النخل، وجائز أن يسمى الطير جوفا، إذ هو محيط به ومشتمل عليه. قاله عبد الحق. قال القرطبي: وهو حسن جدا. وقال غيره: لا مانع من أن تكون في الأجواف حقيقة، ويوسعها الله تعالى حتى تكون أوسع من الفضاء.
وقال القاضي عياض رحمه الله: ليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يجعل الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أو جوف طير، أو حيث شاء كان ذلك وقع ولم يبعد، لا سيّما القول بأنّ الأرواح أجسام، فغير مستحيل أن يتصوّر جزء من الإنسان طائرا، أو يجعل في جوف طير في قناديل تحت العرش، وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ، وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرهفة، وتعذيبها في الصور القبيحة. وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود، لإبطاله ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار، ولهذا قال في حديث آخر: