للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا،

فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- صوته وقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنّا قد عقدنا مع القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر»

ومشى عمر بن الخطاب إلى جنب أبي جندل، وقال له: اصبر واحتسب فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب، وجعل عمر يدنى قائم السّيف منه. قال عمر: رجوت أن يأخذ السّيف فيضرب به أباه. قال فضنّ الرّجل بأبيه. [ (١) ]

وقد كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلمّا رأوا ما رأوا من الصّلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في نفسه دخل علي الناس من ذلك أمر عظيم حتّى كادوا يهلكون. فزادهم أمر أبي جندل على ما بهم، ونفذت القضية وشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين:

أبو بكر وعمر، وعبد الرحمن ابن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم- ومكرز بن حفص وهو مشرك.

فلما فرغ من قضيّة الكتاب

قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» فو الله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فاشتدّ ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال:

«هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا» . وفي رواية: «ألا ترين إلى النّاس أمرهم بالأمر فلا يفعلونه- وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي» .

فقالت: يا رسول الله، لا تلمهم فإنّهم قد دخلهم أمر عظيم ممّا أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصّلح، ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فجلى الله- تعالى- عن الناس بأم سلمة- فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- واضطبع [ (٢) ] بثوبه، فخرج فأخذ الحربة ويمّم هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته «بسم الله والله أكبر» ونحر، فتواثب المسلمون إلى الهدي وازدحموا عليه ينحرونه حتى كاد بعضهم يقع على بعض، وأشرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبعين بدنة، وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثّنيّة، فلما صدّه المشركون ردّ وجوه البدن [ (٣) ] .


[ (١) ] أخرجه أحمد في المسند ٤/ ٣٣٠ والبيهقي في دلائل النبوة ٥/ ٣٣١.
[ (٢) ] اضطبع: أخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، انظر النهاية ٣/ ٧٣.
[ (٣) ] أخرجه البخاري ٣/ ٢٥٧ وأبو داود في الجهاد باب ١٦٧ واحمد ٤/ ٣٣١ والبيهقي في الدلائل ٤/ ١٠٦ وعبد الرزاق (٩٧٢٠) والطبري ٢٦/ ٦٣ وابن أبي شيبة ١٤/ ٤٥٠.