احفر ظبية. قال: وما ظبية؟ فذهب عنه فلما كان من الغد عاد إلى مضجعه فنام فيه فأتى فقيل له: احفر زمزم. قال: وما زمزم؟ قال: لا تنزف ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم.
ثم ادع بالماء الرّوى غير الكدر ... تسقي حجيج الله في كل مبرّ [ (١) ]
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال: تعلّموا أني قد أمرت بحفر زمزم. فقالوا: فهل بيّن لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبيّن لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه وقال: اللهم بيّن لي. فأرى في المنام: احفر تكتم. وفي لفظ:
فقيل له: احفر زمزم إن حفرتها لم تذمّ، وهي تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينفذ فيها ناذر لمغنم، تكون ميراثاً وعقداً محكم، ليست كبعض ما قد تعلم. فقال: وأين هي؟ فقيل له: بين الفرث والدم، في مبحث الغراب الأعصم، في قرية النمل.
فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمّي له من الآيات، فنحرت بقرة بالحزورة فانفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم بين الوثنين إساف ونائلة فنحرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث، فبحث عن قرية النمل.
فقام عبد المطلب فحفر هنالك ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره، فجاءته قريش فقالت له: ما هذا الصّنيع؟ قال: أمرت بحفر زمزم، فلما كشف عنه وبصروا بالطّيّ كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقّاً فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، أن هذا الأمر خصصت به دونكم. قالوا:
تحاكمنا؟ قال: نعم. قالوا: بيننا وبينك كاهنة بني سعد بن هذيم، وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب في نفر من بني أمية وركب من كل بطن من أفناء قريش نفر، وكانت الأرض مفاوز فيما بين الشام والحجاز، حتى إذا كانوا بمفازة من تلك البلاد فني ما عند عبد المطلب وأصحابه من الماء حتى أيقنوا بالهلكة، ثم استسقوا القوم قالوا: ما نستطيع أن نسقيكم، وإنا نخاف مثل الذي أصابكم. فقال عبد المطلب لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته، وكلما مات رجل منكم دفعه أصحابه في حفرته حتى يكون آخركم يدفعه صاحبه، فضيعة رجل أهون من ضيعة
[ (١) ] الأبيات في البداية والنهاية ٢/ ٢٤٣، والسيرة النبوية في الروض الأنف ١/ ١٦٨.