وروى البخاري عن بعض بنات الحارث بن عامر، قال خلف في الأطراف: اسمها زينب، وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن ماويّة قالت زينب: «ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وأنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه اللَّه تعالى خبيبا» .
وقالت ماويّة: «اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرّجل يأكل منه وما أعلم في أرض اللَّه تعالى عنبا يؤكل» . زاد محمد بن عمر:
كان خبيب يتهجّد بالقرآن فكان يسمعه النساء فيبكين ويرفقن عليه.
فلما انسلخت الأشهر الحرم، وأجمعوا على قتله قالت ماوية كما عند محمد بن عمر:
«فأتيته فأخبرته فو اللَّه ما اكترث بذلك» . وقال: «ابعثني بحديدة أستصلح بها» . قالت: «فبعثت إليه بموسى مع أبي حسين بن الحارث» . قال محمد بن عمر: وكانت تحضنه ولم يكن ابنها.
فلما ولّى الغلام قلت: «واللَّه أدرك الرجل ثأره، أيّ شيء صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول: رجل برجل» . فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: «لعمرك أما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة؟» ثم خلّى سبيله. فقلت: «يا خبيب إنما أمنتك بأمانة اللَّه» فقال خبيب: «ما كنت لأقتله وما نستحلّ في ديننا الغدر» .
وفي الصحيح عن أبي هريرة [ (١) ] : « [فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله] استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارته، قالت فغفلت عن صبي لي حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى. فقال:
«أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء اللَّه» . قال الحافظ: والجمع بين الروايتين أنه طلب الموسى من كل منهما، وكان الذي أوصله إليه ابن أحدهما. وأما ابن الذي خشيت عليه حين درج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة. واللَّه تعالى أعلم.
فأخرجوه في الحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة. فلم يتخلّف أحد إمّا موتور فهو يريد أن يتشفّى بالنظر من وتره، وإما غير موتور فهو مخالف للإسلام وأهله. فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها.
فلما انتهوا بخبيب إليها قال: «هل أنتم تاركي فأصلّي ركعتين؟» قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمّهما من غير أن يطوّل فيهما. ثم أقبل على القوم فقال: «أما واللَّه لولا أن تظنوا أني إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة» .
[ (١) ] أخرجه البخاري (٤٠٨٦) .