للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل.

وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط منه أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدّة ودم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع قلبه.

ولما أصبح عبد المطلب أشرف ومعه أبو مسعود يقوده. فقال له أبو مسعود: انظر نحو البحر. قال: أرى طيراً بيضا. فقال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: قد دارت فوق رؤوسنا.

قال: هل تعرفها؟ قال: لا. قال: ما هي بنجدية ولا تهامية ولا يمانية ولا شاميّة وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدرها؟ قال: أمثال اليعاسيب في مناقيرها الحصى كحصى الخذف وهي أبابيل يتبع بعضها بعضاً، أمام كل رفّة منها طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، حتى إذا جازت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم. فقال أبو مسعود: لأمر ما هو كائن.

ثم أن عبد المطلب أرسل ابناً له على فرس له سريع لينظر ما جرى للقوم فذهب الفرس نحوهم فرآهم مشدّخين جميعاً فرجع يرفع فرسه كاشفاً عن فخذه فلما رأى ذلك عبد المطلب قال: إن ابني لأفرس العرب وما كشف عن عورته إلا بشيراً أو نذيراً. فلما دنا منهما قالا له: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعاً. فانحطّا من الجبل ربوة أو ربوتين فلم يؤنسا أحداً، فلما دنيا من المعسكر وجدا القوم خامدين، فعمد عبد المطلب وأخذ فأساً وحفر حتى أعمق في الأرض وملأ من الذهب والجوهر وحفر أيضاً لصاحبه حفيرة وملأها كذلك، وجلس كل واحد على حفرته، ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من ذلك ما ضاقوا به ذرعاً.

وازداد عبد المطلب عظماً لعدم خروجه من مكة.

وأرسل الله سبحانه وتعالى سيلاً عظيماً فاحتمل جثث الحبشة فألقاهم في البحر.

ولما أهلك الله تعالى الحبشة عظّمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله تعالى، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم وقالوا في ذلك أشعاراً كثيرة، منها قول عبد المطلب كما ذكره البلاذري [ (١) ] ورجح الزبير أنها لمغيرة:

قلت والأشرم يردي خيله ... إنّ ذا الأشرم غرّ بالحرم

رامه تبّع فيمن جمّعت ... حميرٌ والحيّ من آل قدم


[ (١) ] أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري: مؤرخ، جغرافي، نسابة، له شعر. من أهل بغداد. جالس المتوكل العباسي، ومات في أيام المعتمد، وله في المأمون مدائح. وكان يجيد الفارسية وترجم عنها كتاب «عهد أزدشير» وأصيب في آخر عمره بذهول شبيه بالجنون فشد بالبيمارستان إلى أن توفي. نسبته إلى حب البلاذر قيل: إنه أكل منه فكان سبب علته. من كتبه «فتوح البلدان» و «القرابة وتاريخ الأشراف» ، ويسمى «أنساب الأشراف» . توفي سنة ٢٧٩ هـ. الأعلام ١/ ٢٦٧.