فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى أسرعوا وتفارط الغزو. فهممت أن أرتحل فأدركهم. فيا ليتني فعلت. ثمّ لم يقدّر ذلك لي. فطفقت، إذا خرجت في النّاس، بعد خروج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، يحزنني أنّي لا أرى لي أسوة. إلّا رجلا مغموصا عليه في النّفاق. أو رجلا ممّن عذر اللَّه من الضعفاء.
ولم يذكرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتّى بلغ تبوكا فقال وهو جالس في القوم بتبوك:«ما فعل كعب بن مالك؟» قال رجل من بني سلمة: يا رسول اللَّه! حبسه برداه والنّظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت. واللَّه! يا رسول اللَّه! ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا يزول به السّراب فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاريّ.
وهو الذي تصدّق بصاع التّمر حين لمزه المنافقون.
فقال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد توجّه قافلا من تبوك، حضرني بثّي. فطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عنّي الباطل. حتّى عرفت أنّي لن أنجو منه بشيء أبدا. فأجمعت صدقه. وصبّح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قادما. وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس. فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون.
فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له. وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علانيتهم. وبايعهم واستغفر لهم. ووكل سرائرهم إلى اللَّه. حتى جئت.
فلمّا سلّمت، تبسّم تبسّم المغضب ثمّ قال «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قال قلت: يا رسول اللَّه! إني، واللَّه! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر. ولقد أعطيت جدلا. ولكنيّ، واللَّه! لقد علمت، لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ اللَّه أن يسخطك عليّ. ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عقبى اللَّه. واللَّه! ما كان لي عذر. واللَّه! ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «أمّا هذا، فقد صدق. فقم حتى يقضي اللَّه فيك» فقمت.
وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني. فقالوا لي: واللَّه! ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، بما اعتذر به إليه المخلّفون. فقد كان كافيك ذنبك، استغفار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لك.
قال: فو اللَّه! ما زالوا يؤنّبونني حتّى أردت أن أرجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فأكذّب نفسي.
قال ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم. لقيه معك رجلان. قالا مثل ما قلت.
فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أميّة