للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حتى يشتمل على الغثّ والسمين، فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزما، وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة، وتارة يذمّونها ويسمّونها تهوّرا، ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض والأحوال، والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه، فيميل إلى الشيء مرّة، ويميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافا في كلامه بالضرورة، فلا يصادف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة- وهي مدة نزول القرآن- فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرا تختلف أحواله. فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

الثامنة: قال البارزي في أول كتابه «أنوار التحصيل في أسرار التنزيل» : اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة، قد يعبّر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل، أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح، ولذلك أمثلة، منها قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، [الرحمن/ ٥٤] لو قال مكانه: «وثمر الجنتين قريب» ، لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجني والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت/ ٤٨] ، أحسن من التعبير ب «تقرأ» لثقله بالهمزة. ومنها لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة/ ٢] أحسن من «لا شك فيه» لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب منها. وَلا تَهِنُوا [آل عمران/ ١٣٩] ، أحسن من «ولا تضعفوا» لخفته. ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم/ ٤] أحسن من «ضعف» لأن الفتحة أخف من الضمة. ومنها آمَنَ أخفّ من «صدق» ، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق وآثَرَكَ اللَّهُ [يوسف/ ٩١] أخفّ من «فضلك» وآتَى أخف من «أعطى» . وأُنْذِرَ [يس/ ٦] أخفّ من «خوف» . وخَيْرٌ لَكُمْ [البقرة/ ٥٤] أخفّ من «أفضل لكم» ، والمصدر في نحو هذا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان/ ١١] ، يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة/ ٣] ، أخف من «مخلوق» و «الغائب» ، وتَنْكِحَ [البقرة/ ٢٣٠] أخف من «تتزوج» ، لأن «تفعل» أخف من «تفعّل» ، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر.