ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه، وينحني حتى يصعب على جلسائه لما يراه من هيبته، وعظيم قدره، ورفعة محله عند ربه، فقيل له يوما في ذلك: أي لم تتغير إذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال:
لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون مني، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير التيمي وكان سيّد القراء لا يكاد نسأله عن حديث ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- إلا بكى حتى نرحمه، لما يأخذه من لوعة الاحتراق بألم الفراق.
ولقد كنت أرى جعفر الصادق ابن محمد الصادق ابن زين العابدين وكان كثير الدّعابة- بضم أوله، أي: المزاح والتبسم أي: الضحك بلا صوت- إذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلّم- اصفر لونه مهابة منه وإجلالا له، وما رأيته يحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلا على طهارة تعظيما لحديثه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم ٣، ٤] ولقد اختلفت متردداً إليه زماناً فما كنت أراه إلّا على ثلاث خصال، إمّا مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله تعالى.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق يذكر النبي- صلى الله عليه وسلّم- فينظر إلى لونه كأنه نزف- أي سال منه الدم- وقد جفّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولقد كنت آتى عمار بن عبد الله بن الزبير بن العوام، فإذا ذكر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت محمد بن شهاب الزهري وكان من أهنأ الناس وأقررهم، فإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وسلّم- فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم- أي: بضم أوله وفتح ثانية- الزهري مولاهم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى يقوم الناس عنه، ويتركوه رحمة به، وحذرا من رؤيته على تلك الحالة المحزنة.
روي عن قتادة- رضي الله تعالى عنه- أنه كان إذا سمع حديثا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذه العويل- أي: صوت الصدر بالبكاء، والزّويل أي القلق- والانزعاج بحيث لا يستقر بمكان.
ولما كثر على مالك الناس، قيل له: لو جعلت مستمليا يسمعهم ما تمليه لكثرتهم وبعد بعضهم عنك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات ٢] وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرئ حديثه- صلى الله عليه وسلم- أمر بالسكوت وقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات ٢] ويتأوّل أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله.