للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا ما رأيت فيه لأئمتنا، وكلّ من هذه الوجوه محتمل للّفظ على بعد بعضها وتعسّف الآخر منها.

قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: والذي أقول- ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلّها- أن قوله- صلى الله عليه وسلم: لم أنس إنكار للّفظ الذي نفاه عن نفسه، وأنكره على غيره بقوله: بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا، ولكنه نسّي.

وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر: لست أنسى، ولكن أنسّى. فلما قال له السائل: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ أنكر قصرها كما كان، ونسيانه هو من قبل نفسه، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسّي حتى سأل غيره، فتحقّق أنه نسّي، وأجري عليه ذلك ليسنّ، فقوله على هذا: لم أنس ولم تقصر، وكلّ ذلك لم يكن- صدق وحقّ، لم تقصر، ولم ينس حقيقة، ولكنه نسّي.

ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ، وذلك أنه قال: أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النّسيان، قال: لأنّ النّسيان غفلة وآفة، والسّهو إنما هو شغل بال، قال: فكأن النبي- صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ولا يغفل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة، شغلا بها لا غفلة عنها.

فهذا إن تحقّق على هذا المعنى لم يكن في قوله: ما قصرت ولا نسيت خلف في قول.

وعندي أنّ قوله: ما قصرت الصلاة وما نسيت بمعنى التّرك الذي هو أحد وجهي النسيان، أراد- والله أعلم- أني لم أسلّم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة، ولكني نسيت، ولم يكن من تلقاء نفسي.

والدليل على ذلك

قوله في الحديث الصحيح: إنّي لأنسى أو أنسّى لأسنّ.

قال القاضي: وهذه الأحاديث مبنيّة على السّهو في الفعل الذي قرّرناه، وحكمة الله فيه ليستنّ به، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول، وأرفع للاحتمال، وشرطه ألّا يقرّ على السّهو، بل يشعر به ليرتفع الالتباس، وتظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه، فإن النسيان والسهو في الفعل في حقه- صلى الله عليه وسلم- غير مضادّ للمعجزة، ولا قادح في التصديق،

وقد قال- صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني» .

وقال صلى الله عليه وسلّم: «رحم الله فلانا، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطهن» - ويروي: أنسيتهنّ.

وقال- صلى الله عليه وسلم: «إني لأنسى، أو أنسّى، لأسنّ» .