ويتولّى في منزله ما يتولّى الخادم من مهنته، ويتسمّت في ملئه، حتى لا يبدو شيء من أطرافه، وحتى كأن على رؤوس جلسائه الطير، ويتحدث مع جلسائه بحديث أوّلهم، ويتعجّب مما يتعجبون منه، ويضحك مما يضحكون منه، قد وسع الناس بشره وعدله، لا يستفزّه الغضب، ولا يقصّر عن الحقّ، ولا يبطن على جلسائه،
يقول: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين.
فإن قلت: فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في الداخل عليه: بئس ابن العشيرة.
فلما دخل ألان له القول وضحك معه، فلما سألته عن ذلك قال: إن من شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه.
وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن، ويقول في ظهره ما قال؟
فالجواب أنّ فعله صلى الله عليه وسلم كان استئلافا لمثله، وتطييبا لنفسه، ليتمكّن إيمانه، ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام.
ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حدّ مداراة الدنيا إلى السياسة الدّينية.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللّيّنة؟
قال صفوان: لقد أعطاني وهو أبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى صار أحبّ الخلق إليّ.
وقوله فيه: بئس ابن العشيرة- هو غير غيبة، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم، ليحذر حاله، ويحترز منه، ولا يوثق بجانبه كلّ الثّقة، ولا سيما وكان مطاعا متبوعا.
ومثل هذا إذا كان لضرورة ودفع مضرّة لم يكن بغيبة، بل كان جائزا، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدّثين في تجريح الرواة والمزكّين في الشّهود.
فإن قيل: فما معنى المعضل الوارد
في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد أخبرته أنّ موالي بريرة أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء، فقال لها صلى الله عليه وسلم: اشتريها واشترطي لهم الولاء.
ففعلت، ثم قام خطيبا، فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
والنبي- صلى الله عليه وسلم- قد أمرها بالشّرط لهم، وعليه باعوها، ولولاه- والله أعلم- لما باعوها من عائشة، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها، ثم أبطله صلى الله عليه وسلم، وهو قد حرّم الغشّ والخديعة.
فاعلم- أكرمك الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم منزّه عمّا يقع في بال الجاهل من هذا، ولتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة: قوله: اشتر لهم الولاء، إذ ليست في أكثر طرق