من جهة روحه ولا من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دحية فهل يموت الجسد الذي له ستمائُة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح؟ أم يبقى حيّا خاليا من الروح المتنقلة بالجسد المشبّه بجسد دحية؟
قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته لأن موت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلاً، وإنما هو بعادة مطّردة أجراها اللَّه في أرواح بني آدم، فيبقى ذلك الجسد حيّا لا ينقص، من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر. انتهى.
وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في كتابه «الفيض الجاري على صحيح البخاري» :
يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأول، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منفوشا، فإنه بالنفش تحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغيّر وهذا على سبيل التقريب.
وقال العلامة علاء الدين القونوي [ (١) ] شارح الحاوي في كتاب «الأعلام بإلمام الأرواح بعد الموت على الأجسام» : قد كان جبريل عليه الصلاة والسلام يتمثّل في صورة دحية وتمثّل لمريم بشرا سويّا، وفي الممكن أن يخص اللَّه بعض عباده في حال الحياة بخاصة لنفسه الملكيّة القدسية وقوة لها يقدر بها على التصّرف في بدن آخر غير بدنها المعهود مع استمرار تصرفها في الأول. وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سمّوا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر تشبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، وقد أثبت الصوفية عالما متوسّطا بين عالمي الأجساد والأرواح، وبنوا على ذلك تجسّد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
فتكون الروح الواحدة كروح جبريل مثلا في وقت واحد مدبّرة لشبحه الأصلي، ولهذا الشبح المثال، وينحلّ بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب جسمه الأول- الذي يسدّ الأفق بأجنحته لمّا تراءى للنبي صلى اللَّه عليه وسلم في صورته الأصلية- عند إتيانه إليه في صورة دحية؟ وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال:
[ (١) ] محمود بن علي بن إسماعيل بن يوسف، العالم، محب الدين أبو الثناء بن الإمام العلامة علاء الدين، التبريزي، القونوي الأصل المصري. ولد بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوفي والده وهو صغير، فاشتغل، وأخذ عن مشايخ العصر، ودرس وأشغل، وأفتى، وصنف. ذكره رفيقه الإسنوي في طبقاته، وبالغ في المدح له والثناء عليه، فقال: كان صاحب علم وعمل وطريقة لا عوج فيها ولا خلل. كان عالما بالفقه وأصوله، فاضلا في العربية والمعاني والبيان، صالحا، مجتهدا في العبادة والتلاوة، كثير الاشتغال والإشغال محافظا على أوقاته، توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. الطبقات لابن قاضي شهبة ٣/ ٧٢، ٧٣، وطبقات الشافعية للسبكي ٦/ ٢٤٧. وطبقات الأسنوي